محمود الوهب بين الإبداع القصصي والهمّ الإنساني
من مدينة الباب الحلبيّة، إلى عوالم النشر والكتابة القصصيّة، وصولاً إلى التغريبة السوريّة التي عاشها "محمود الوهب" في خريف عمره حيث استقرّ به المقام في أوروبا، يحكي لنا القاصّ والناشر عن رحلته وتجربته بشغف حكّاء شفيف الكلام.
محمود الوهب الذي ولد عام 1945 وتخرّج من كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة ثمّ عمل ً في جريدة النور الدمشقيّة منذ أيلول عام 2001 حتّى حزيران عام 2011 عضواً في هيئة التحرير ومشرفاً على صفحتي الثقافة والمحلّيّات، وكتب أربعة مجموعات قصصيّة هي: (إشراقات الزمن الماضي، تخاريف العم لطّوف، سفر، الصمت) ورواية يتيمة بعنوان (قبل الميلاد)، والذي بدأ الكتابة في عمر متقدّم، يتحدّث عن همومه وأحلامه وهواجسه عبر حوار أجراه معه موقع "هلات" بتدفّق وشفافية لا تخلو منهما تجربته في الكتابة، في هذا الحوار.
هل هناك موقفٌ أو حدثٌ معيّن دفعك إلى كتابة القصّة أول مرة؟ وكيف كانت تجربة نشر قصصك الأولى؟
الحقيقة أنّني جئت إلى الكتابة الأدبية متأخّراً جداً، وما دفعني إليها حالة اليأس أو القنوط التي أوصلتنا إليها السياسة، وأحزابها، وقادتها! ففي أوائل تسعينيّات القرن الماضي، وبعد مضيّ ربع قرن على وجودي في الحزب الشيوعي السوري، ومتابعتي لحكومات البعث المتعاقبة في ذلك المدى، وربّما أكثر قليلاً، شعرت بأنّني لم أعد قادراً على كتم صرخات انعدام الرضا عمَّا يجري، فكلّ ما ننتقده في جريدة الحزب، وما يقال في بعض المحافل، هو خالٍ من أيِّ تأثير، وأنّ أفق الإصلاح سواءً أكان باجتثاث الفساد، أم بإحياء التنمية، هو وهم وعبث.. فتوجهت نحو الكتابة الأدبيّة تعبيراً عن تلك الحال البائسة.. وكانت النفس تنوس بين الماضي والحاضر، بين بريق الشعارات السابقة وانطفاء روحها، وأخذت أعود إلى ما في الذاكرة من مخزون أحداث وتجارب، وقراءات عن القصّة التي كانت في الستينيّات والسبعينيّات في أوج انتعاشها مع الصحافة، وأحياناً كان لها مجلّات خاصّة، ومنها مجلة "القصّة" المصرية التي تعنى بنشر القصص، وبالدراسات النقديّة. وكان الزاد منها كثيراً. وجاءت قصتي الأولى مطابقة لما أعانيه، وكان عنوانها: "إشراقات الزمن الماضي"، وأرسلتها إلى مجلّة الأسبوع الأدبيّ، ونشرت، بعد تعديل عبارة في خاتمتها، اقترحها عليَّ الأديب "حسن حميد" إذ كان فيها شيء من المباشرة، واستفزاز السلطات، وأخذت القصص تتوالى إلى أن صدرت مجموعتي القصصيّة الأولى، تحمل عنوان القصة الأولى نفسها، وكان أن قدَّم لها الروائي الكبير حنَّا مينة. ولدى اطّلاعي على المقدمة، قلت للأستاذ حنَّا: يعني أنت مقتنع بالقصص، نظر إليَّ بدهشة وقال: يا ابني أنا "حنّا مينة" لا أقول كلاماً مجانياً، وما كتبته سأنشره مقالاً مستقلاً، ويحمل اسمي..
حين طبعت أولى مجموعاتك القصصيّة (إشراقات الزمن الماضي) قال أحد النقّاد تعليقاً عليها: تجربة محمود الوهب في القصّة القصيرة ولدت مكتملة، ما أثر هذه المقولة على تجربتك؟
قبل طباعة المجموعة دعيت إلى أمسية أدبية مع الشاعر "علي محمد شريف"، وطلب مني رئيس فرع الاتحاد بحلب الأستاذ القاص أيضاً "عبدو محمد" أن أعرِّف نفسي بكلمات.. فكتبت التالي: "متذوق للأدب متعدٍّ على حرفته" فما كان منه، بعد أن قرأ ما كتبت، إلا أن نظر إليَّ بشيء من العتب، وهو يقول ما هذا؟! قلت هذا الواقع.. فقال لا، نحن هنا مؤسسة، ولا نستضيف أيّاً كان، وأنت قاصّ، ونستضيفك على هذا الأساس.. في إحدى الأمسيات انبرى أحد النقّاد للتعليق على قصة قرأتها، فقال تلك العبارة، وهو أستاذ جامعيّ، وله باعٌ في النقد، أمّا مجموعتي الثانية، وكانت تحت عنوان "تخاريف العم لطّوف" فأعطيت مخطوطها للدكتور "أحمد زياد محبّك" للاطلاع، وهو أستاذ جامعيّ أيضاً، ليفاجئني في اليوم التالي بكتابة صفحتين أيضاً، يقول فيهما: شدّتني المجموعة فلم أستطع النوم حتى أكملتها وقت السحور (كنّا في شهر رمضان) ووجدت نفسي مندفعاً لكتابة ما كتبته! وكانت شهادة طيّبة منه. وأعتقد أنّ كثرة ما قرأته من قصص ونقد، وما كانت نفسي ممتلئة به من أسى يصلح لموضوعات القصّة القصيرة التي غالباً ما تدور حول حياة المهمّشين، وخاصة مثلما أشرت، حول انطفاء حلم الحياة العامة الذي تعلّقت به، وعملت لأجله في السياسة، قد لعب دوراً في ذلك.. ولعلَّ مزجي في قصصي بين ما هو اجتماعي، وما هو سياسي قد ساهم بذلك أيضاً. أمّا عن التأثير في التجربة، فهي تأكيد لي على المثابرة. وذلك ما كان، إذ صار لديَّ أربع مجموعات قصصيّة، وخامسة مازلت أتريث في دفعها للطباعة لأنّها كتبت على عجل، وعكست أحداث الثورة السوريّة الأولى.. وكنت قد تجرأت على الرواية، فأنجزت واحدة هي: "قبل الميلاد" التي قال عنها الناقد محمود منقذ الهاشمي، قبل طباعتها: "يخرج همام (بطل الرواية) لمعالجة مشكلة تخصّ صديقه، وإذا عينه ترى في الأمكنة التي يمرّ بها، في مدينة حلب، جذور المشكلة، في تصوير أخّاذ قلّ نظيره، وتعترضه أمور تحوِّل مشكلة الآخر إلى مشكلة الذات، وتتعقّد لتتحوَّل "الدراما" الداخلية إلى صورة سوريالية، مثيرة، يمتزج فيها الخاصّ بالعامّ الذي يقف على شفير الهاوية، يرهص بأحداث جسام.." وكانت كلمات الأستاذ الهاشمي جواز مرور لطباعة الرواية..
تنوّعت أساليبك في القصّ بين الواقعيّ والرمزيّ والفنتازي، هل تعتقد أنّ القاصّ ينبغي له أن يتبنّى أسلوباً واحداً؟! أم إنّ تنوع الأساليب يجعل النص ينفتح على فضاء أرحب؟
لا، أبداً، على القاص ألَّا يتبنّى شكلاً سرديّاً واحداً، فالتنويع ضرورة موضوعيّة، ثمَّ إنَّ موضوع القصّة هو الذي يأتي بشكله الملائم، فلابدّ لكلّ موضوع من شكل يناسبه.. أذكر أنني حين نزل الجيش السوريّ إلى القرى وشوارع المدن، لقمع المتظاهرين، خلال العام 2011، وقفت حزيناً متأمّلاً تلك الحال، وأنا الذي أدى خدمة العلم أيام حرب الاستنزاف، حين كان الحال ممتلئاً بالآمال المعلّقة على الجيوش.. وظلّ السؤال كيف لي أن أعبِّر عنها أدبياً؟ علماً أنّني عبَّرت عن رأيي في موضوع نزول الجيش صراحة، خلال ندوة علنيّة أقيمت في حلب، وحضرها مئات الناس بينهم مسؤولون حزبيّون، وحكوميّون، وأجهزة أمنٍ، ولاقى الرأي ترحيباً كبيراً، وتصفيقاً حاداً.. وكان المتحدّثون في الندوة: المفكر طيّب تيزيني، ورجل الدين محمد حبش، والاقتصادي قدري جميل. وقلت: يجب أن يعود الجيش إلى ثكناته! أما صياغة هذا الموقف أدبياًّ، فقد احتاج مني تأمّلاً عميقاً، ووقتاً طويلاً استغرق أسابيع، وربما أشهراً في البحث عن شكل لقصة ذكيّة تعبِّر بعمق عن تلك المأساة التي عاشتها سورية.. فكتبت قصة عن مهر أصيل، جَعَلتُ شخصيّة القصة الرئيسة (سيِّد قوم أو قرية) يستعير ذلك المهر ليقضي مشواراً.. لكنه يستخدمه في حراثة أرضه، الأمر الذي أثَّر في روح المهر، حين وجد نفسه في غير المكان المخلوق له، وقد مات إثر ذلك وبدا ذلك في عينيه، وكأنَّما موتُه انتحارٌ.. وأذكر، عندما سألني أحد الحاضرين، بعد قراءة القصّة في نادي العروبة.. هو الناقد الأدبي: "عدنان كزارة": عمَّا يعنيه المهر؟! فقلت: إنه يمثل الجيش السوريّ الذي يستخدم في غير مهامه الوطنية.. فضرب جبينه بباطن كفه، وكأنه يقول: كيف فاتتني هذه الصورة؟!
تعمّقت في دراسة المسرح، وأسّست فرقة مسرحيّة في مدينة حلب، هل كان لقراءاتك وعملك في المسرح أثراً ما على تطوّر أساليب فنّ القصّ لديك؟ وكيف ترى تأثير الغوص في عوالم جنس أدبيّ على بقيّة الأجناس الأدبية؟
تأسّست الفرقة المسرحيّة بمبادرة، ومتابعة حثيثة من مدرّس مادّة الفنّ التشكيلي في كلّ من مدينتي "الباب" و"منبج" الأستاذ "سليم مجيد الطه" وعضويّة مجموعة من الشباب تتراوح أعمارهم بين الأربعة عشرة سنة والعشرين تقريباً، وجاء اسمها في طلب الترخيص "فرقة الروابي الخضر" بعيداً عن السياسية ومطابقاً للواقع الريفيّ وللأحلام الخضراء.. كان ذلك مع أواخر عام 1961 وبداية عام 1962 أي خلال مرحلة انفصال سورية عن مصر، ولم تدم تلك المرحلة أكثر من عام ونصف العام، هي فترة عادت فيها سورية إلى حياة الديمقراطية التي كانت في مرحلة الخمسينيّات من تاريخ سورية المعاصر.. إذ سُمِح بتشكيل أحزاب سياسيّة، ومنتديات ثقافيّة واجتماعيّة، ورغم قصر الفترة إلّا أنَّها كانت غنيّة بالنسبة لنا نحن الشباب، ووجد في الفرقة شباب موهوبون، مثل "فوّاز الساجر" الذي غدا، فيما بعد، علامة بارزة في المسرح السوريّ، وكذلك الممثل القدير "فؤاد الراشد" الذي اختطفه الموت مبكِّراً! وآخرين منهم "هاشم زيبو"، و"عبد الله دالاتي"، و"محمود سعدون"، و"محمد شيخ ويس".. وكلّ هؤلاء انخرطوا في الحياة العامّة.. بعد مجيء حكم البعث وعاشت سورية القمع والمنع لكلِّ ما يجمِّل الحياة! وانتهت حياة الفرقة وكان أن قدّمت عدة مسرحيات.. أما تأثيرات الفرقة، فقد كانت كبيرة لا على القصّ بل على التكوين الثقافي أذكر أنني إضافة إلى النقاشات التي كانت تدور بيننا، قرأت كتاباً كان اسمه "فن كتابة المسرحية" ربّما استعرته من مكتبة دار المعلمين بحلب، وهو من ترجمة "دريني خشبة"، كان ذلك الكتاب الضخم سفراً أدبيّاً فتَّح ذهني على عالم الأدب عموماً، وعرَّفني على كبار كتّابه في العالم، وقد قرأت الكثير من المسرحيّات لأشهر المسرحييّن بدءاً من أعمال شكسبير كاملة، وانتهاء بأعمال سعد الله ونّوس، ثم مروراً بـ: هنريك أبسن، ومسرحيّته الشهيرة"بيت الدمية"، وبرتولد بريخت الذي قرأت لة "دائرة الطباشير القوقازيّة"، و"تنسي وليامز" الذي قرأت رائعته "قطة على سطح من الصفيح الساخن"، إلى "تشيخوف" و"بستان الكرز"، ولسنا في مجال تعداد العناوين، لكن لكلّ ذلك تأثير في البنية الثقافيّة.. أمّا ما أشرتَ إليه من فنتازيا ورموز فمصادرها مختلفة.. وربّما من أدب أمريكا اللاتينيّة، وفرضتها طبيعة القصص.. أمّا فيما يتعلّق في الغوص في جنس أدبيٍّ واحدٍ فالتخصّص ضروري، إذ يمنع التشتّت الذهني، ويفسح في المجال للتجريب، وتطوير الجنس نفسه! ولكن هذا لا يمنع حين توجد الموهبة، والعمل الجاد من التنوع.. فالأجناس الأدبية قريبة من بعضها وخاصّة القصة والرواية والمسرحيّة.
من هم كتّاب القصّة العرب الذين كان لهم دور في بلورة تجربتك؟ ومَنْ مِن الكتّاب غير العرب لفت انتباهك في تجربته القصصيّة؟
لعلَّ تأثير القصّ جاءت بدايته من القاصّ والروائيّ الكبير "نجيب محفوظ" الذي قرأتُ مجموعاته القصصيّة، ورواياته كافّة بشغف، إذ ترى عنده بساطة السرد، وعمق التفكير الفلسفيّ، وربّما يلتقي ذلك مع سرد فيودور دوستويفسكي الذي يغوص في النفس البشريّة، أخصّ هنا "الإخوة كرامازوف"، و"الجريمة والعقاب"، وثمّة أمر آخر هو أنّني قد اطّلعت في دراستي الجامعية على كتاب الدكتور حسام الخطيب عن القصّة القصيرة الذي يعكس اهتمام الكتّاب السوريّين بالقضايا السياسيّة والاجتماعيّة، وقد درَّسْتُ لطلّاب المدرسة الإعدادية كتاب "صور من حياتنا" الذي يضم قصصاً لأبرز القاصّين السوريّين. أما الكاتب الأجنبي فهو بلا منازع "أنطون تشيكوف"، وأذكر هنا قصّته "ميتة موظف" وقصّة أخرى لا أذكر اسمها، هي عن الخيانة الزوجية إذ يرسم هواجس بطلة القصّة الذاهبة إلى الخيانة برجليها، بينما تلازمها هواجس حول قيم الحب، وتجاوز حاجز الروابط الأسريّة زوجاً وأولاداً لكنها تستمرّ في السير! وثمة قصة لـ: " ماريو بارغاس يوسا" عن بحارة نزلوا للتوّ في أحد الموانئ يريدون دفن أحد زملائهم الذي كان قد توفّي في سفرهم، لكن أحدهم من الذين يحملون التابوت، ينسلّ من بين زملائه حين يمرَّ من جانب خمارة أو ملهى.. والقصتان تدوران حول نوازع النفس..
كيف تعاملت كقارئ وككاتب مع الدراسات النقديّة التي تناولت فنّ القصّة القصيرة؟! وهل تعتقد أنّ التعمّق في قراءة الدراسات النقديّة التي تتّخذ من القصّة القصيرة موضوعاً لها يساعد كاتب القصّة في نضوج تجربته؟ أم إنّه يحدّ من فطرة القاص وعفويّته؟
لا أعتقد أن ثمة نقداً منهجيّاً مستقلاً عن العامل الذاتيّ، فإمّا أن يأتي النقد لأمر سياسيّ أو لأمور أخرى تتعلّق بالقرب والبعد من الكاتب.. فبعض كتّاب النقد ليسوا جادّين أو منهجيّين، أحد من هؤلاء سفَّه مجموعتي الأولى فقط لأنّ حنا مينة قدَّم لها، وحين سألت عنه قيل لي: إنه مخبرٌ عند الأمن العسكريّ.. فالكتابات التي تصنّف تحت عنوان النقد هي إمّا تقريظ أو هجاء، ويبقى النصّ حاملاً لقيمه شكلاً ومحتوى، ويبقى القارئ أهمَّ ناقد وأبقى.. ولعلِّي هنا أشير إلى الرسائل الجامعيّة (الماجستير والدكتوراة) إذ أراها أفضل ما يركن إليه في النقد "المحايد"، فهي محكَّمة.. على كل حال، أنا راضٍ عمَّا كتب عن مجموعاتي القصصيّة، وعن روايتي الوحيدة التي درّست لجهة اللغة والأسلوب في رسالة ماجستير في الجزائر، ولست في مجال تقييم ما كتبته، فهو، كما أشرت، إنّما جاء لخلق نوع من التوازن في حياة الكاتب وقد عبَّرَت، أو عرَّت واقعاً بائساً منافياً للحياة على الصعيدين الاجتماعيّ، والسياسيّ، ورأت ضرورة تغييره!
أمَّا سؤالك عن قراءة النقد وإذا ما كانت مفيدة، لا شكّ هي كذلك، وخاصّة عندما تجيء على أصولها، لكن يجب ألا يغيب عن البال أن القاصّ أو الروائيّ ناقدٌ بطبعه، وخاصّة إذا كان من النوع الذي يتريّث في كتابته، بمعنى يكتب ويمزّق ثم يجدّد وهكذا.. فهو أيضاً صاحب رؤية، وقد يفرض النصّ عليه، أحياناً، بعض مساراته أو مظاهره..
كيف ترى المشهد القصصيّ السوري اليوم؟ وهل ساهم الواقع السوريّ الذي يعيشه الكتّاب بعد عام ٢٠١١ في تغيير زاوية الرؤيا في موشور الكتابة؟
الحقيقة المشهد جيّد وغني وقد لفت انتباهي كثيراً قاصّ تابعت تجربته القصصيّة، وكتبت عن مجموعته الأولى: "قبو رطب لثلاثة رسامين" هو كاتب شاب اسمه مصطفى تاج الدين الموسى، وهو ابن القاصّ تاج الدين، وأراه اليوم يتربّع على عرش القصّة القصيرة السورية، وربّما العربيّة بلا منازع..
ويمكن الحديث عن الرواية التي تغوي الشباب، وعن عكس التجارب الشخصيّة فيها، وعن موضوعاتها المتقاربة، ويمكن الإشارة إلى مجموعة من الروايات منها: "هذه ثورتي" للأستاذ "محمد جلال"، وهو اسم مستعار للكاتب، وترصد الرواية فرحة الشباب، وبهجتهم بأعماله الثوريّة الصغيرة.. تمزجها بشيء من الخوف، فالاقتراب من سور السلطان أمر له رهبته، وهو محفوف بالمخاطر، لكنه حدث.. ورغم بساطة السرد إلا أنها تنقل أدقّ هواجس هؤلاء الشباب، وما يجول بخاطرهم.. ومغافلة أهاليهم للخروج في المظاهرات، يوم الجمع وتتحدّث عن خطب رجال الدين المتباينة وعن "الشبّيحة" ورجال الأمن.. وتعدّ الرواية وثيقة تاريخيّة عن مجريات أحداث الثورة في حلب وريفها! وثمّة رواية لشابة اسمها "لارا زياد المحمد" وروايتها: "لوحات هاربة من الموت" تتحدّث عن مرحلة أوائل الثمانينيّات ومجازر حماة.. وتتمتّع الرواية بسرد أدبيٍّ سلس، وعبارات موحية ذات دلالات وتأويل، وحوار عفويّ لا تكلف فيه، والأهم هوعنصر التشويق الذي يتطلّب عرض مشكلة تفرض على القارئ البحث عن الحلّ الذي يجيء عبر أحداثٍ تتتابع وأبطالٍ تنمو سلباً أو إيجاباً ممسكة بذهن القارئ ومشاعره، صفحة بعد أخرى، وربّما معطية بعض الإشارات الدالّة، إلى أن تفاجئه بخاتمة تنسجم مع كلّ ما تقدّم حزنًا أو فرحًا، والأهمّ أنها أتت بأسلوب فيه ابتكار، وهناك رواية "قتيل على قيد الحياة"، وهي رواية أولى للشاب "إسماعيل ناجح"، وتدور حول معاناة الهجرة، وافتقاد الأهل والحبيبة، لكنّها في النهاية تتفاعل إنسانيّاً مع حياة المهجر وتنسجم.. وثمة رواية للأديب المكثر في الكتابة الأدبيّة الروائي: "غيث حمور"، أعتقد أنها الأولى واسمها: "أبيضُ قانٍ" تتحدّث الرواية عن غياب الحلم، رغم حجم التضحيات، بطلتها امرأة، ويستخدم "غيث" الكثير من الرموز التي تمنح القارئ فسحة من المتعة في تفكيكها، واكتشاف دلالاتها..
كيف أثَّرت المدينة التي ولدت فيها "الباب" على تجربتك الأدبية؟ هل تجد أن هناك سمات خاصة لمدينتك تنعكس في قصصك؟!
عشتُ في مدينة الباب طفولتي ويفاعتي، هذه المرحلة الأكثر غنى للروح وتأثيراً فيها، لذلك هي مخزن للكثير من الحوادث المستعادة في كتاباتي الأدبيّة، وغالباً ما تحضر "الباب" مكاناً في قصصٍ كثيرةٍ، لما فيها من مزايا مثل البيوت العربيّة المتلاصقة، والفضاءات الواسعة، والآفاق الممتدّة، والعلاقات الحارَّة بين الجوار في الحيّ الواحد.. كل ذلك يخدم السرد، ويمنحه حيويّة، وأبعاداً إنسانيّة.. إنّ مجموعتي الثانية "تخاريف العمّ لطّوف" هي من أجواء مدينة الباب وأريافها.. ويعدّها بعضهم الأفضل بين ما كتبته..
ما الذي دفعك إلى كتابة مقالاتٍ اجتماعيّة إلى جانب الأدب القصصيّ؟ هل تعتقد أن هناك علاقة تكامليّة بين الكتابة القصصيّة والاجتماعيّة؟
المقالات الاجتماعيّة تسلّط الضوء على بعض حالات الناس البائسة، وهي موجّهة إلى المسؤولين في الدولة، ولا أعتقد أنّ ثمّة تناقض بين الكتابة الأدبيّة والمقالة الاجتماعيّة.. أنت تعلم أنني عملت في "جريدة النور" مدّة عشر سنوات، وكان لديَّ زاويتان واحدة في الصفحة الثقافيّة، وعنوانها "أبيض على أسود" فيها مزج بين الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ.. أمّا الثانية ففي صفحة المحلّيّات وعنوانها: "للحكومة فقط" وتتناول قضايا ساخنة.. من القضايا الكثيرة التي تعكِّر صفو الحياة وتلوَّث نقاء وجهها.. ولا يغيب عن أعيننا أنّ الاجتماعيّ يُعَدُّ مصدر الأدب الرئيس، ونبعه الذي لا ينضب.. بعض الأصدقاء أعجبوا بالمقالات أكثر، ربّما لأنّ النقد فيها واضح، وربّما لأنّه جاء في وقتٍ يتطلب الصراخ في وجه الحكومات المتعاقبة..
ماهي مشاريعك القادمة؟ وهل تحبّ أن تضيف كلمة أخيرة في نهاية الحوار؟
للأسف لم أكتب سوى مجموعةً واحدةً لم تنشر بعد.. وكنت أنوي كتابة جزءٍ ثانٍ للرواية يتضمّن ما الذي حدث بعد الميلاد.. ويبدو لي أنّ الزمن لم يعد يسمح..
في النهاية لا أقول غير أن الكلمة مسؤوليّة، وهي مقدّسة، فيها من روح النبوَّة، فلتكن محترمة، ومتقنة شكلاً ومحتوى، أداة وروحاً.. وللشباب خاصّة، لا تتعجّلوا النشر، اقرؤوا ثمّ اقرؤوا.. تمعنوا في هذا الكون، وفي أعماق الإنسان، في أعماله وعلاقاته، ليكن لكم موقف من الحياة والناس، اغرفوا من الواقع ما شئتم، وحلّقوا في أخيلتكم إلى أبعد مدى.. قارعوا الظلم، وانشروا، ما أمكنكم، عطر المحبّة والسلام، حاصروا شيطان الأنا المتربّص في النفوس! ابتعدوا عن الغرور إذا ما سمعتم مديحاً، وابحثوا عن الأفضل.




0 تعليقات