انقطعت بهم السبل، لم يعد أمامهم طريق واضح يسلكونه، فساروا كيفما كان، ورويدا رويدا تفرقوا وتاهوا عن بعضهم، كان المكان اشبه بمتاهة يدرون فيها ويدرون فيعودن ويلتقون مجددا، يتساءلوا عن الجديد، يهزون رؤوسهم سلبا، ليس من جديد في هذا الهلاك المحدق بهم، أنه هلاك وحسب. تمزقت احذيتهم وأدمت أقدامهم، أمست ثيابهم مزق ترفرف كأعلام امبراطورية قديمة عصف بها الزّمن وأهلها، مزّقوا الأعلام المرفرفة فوق اجسادهم كي يضمدوا بها جراحهم، تشققت شفاهم وذبلت نظراتهم وأصبح كل شيء ممكن وغير ممكن في آن.. دلفوا حلقة الهذيان، فصاح أحدهم عندما اصل للقلعة سأنزع حذاء الامبراطور وانتعله، وقال آخر سأشرب كأسه وآكل على طاولته، وقال آخر سأتبول في ذات الموضع الذي كان يتبول فيه وانام فوق ذات السرير، وقال آخر ما أنا فسأجلس على كرسيه ولن أبارحه حتى حين النوم والتبول.
اشتد الهذيان والهياج عندما سيطر الجوع والعطش على كل غريزة، فالتفوا الى بعضهم البعض بأفواه مفتوحة وعيون لامعة، ففي عروق كل شخص كمية دم ومصل تكفي لتروي عطش عدة اشخاص وتشبع جوعهم، تكتلوا في مجموعات وتشاورا لأول مرة منذ بدأ مشوارهم كي يحددوا الفريسة المناسبة، ومثل الحيوانات بدأوا بالأضعف، حدقوا في فريستهم المليئة بالدم وقليل من اللحم والدهن..تلونت البرية..تنبهت الضواري الى هذه الغنيمة التي ظلت تراقبها وتتبعها طويلا دون اقتراب منهم، فقد كانوا متخوفين من اعدادهم المهولة إذ يكفي أن يصرخوا معا كي تُنزع الجلود عن اجسادهم وتسقط انيابهم، واظبت على السير معهم على مبعدة مستنظرين لحظة الانقضاض وهي آتية لا محال، يعلمون غريزيا أن القطيع لا يبق متماسكا حتى النهاية، دوما يوجد من يتخلف أو يشذ لسبب ما.
تصّعدت رائحة الدم وتلونت الأفواه والأجساد بالأحمر، تكالبت الحيوانات على القصعة والتهموا الجيف الآدمية المتروكة في البرية، استمر الأمر على هذه الحال الى أن بلغوا القلعة وكانت اعدادهم قد اصبحت قليلة ولم يعد بهم حاجة الى فعل ما امتهنوه على طول الطريق، فها هي القلعة ماثلة أمامهم، وارتطمت آمالهم بصخور الأسوار وتكسرت كمزهرية خزفة وتناثرت في الأرجاء، لن يفتح الباب لهم مهما حاولا، لا أحد يفتح الباب طواعية. تبادلوا المحاولات بدأ من بهم بعض القوة بلطم الباب ورفسه أو دفعه بالاكتاف، حاولوا شتى الطرق، ارتقوا فوق اكتاف بعضهم كي يتجازوا السور، أما الضعفاء منهم فاكتفوا باللطم على صدورهم ورؤسهم والصراخ عاليا احيانا طلبا للمساعدة وانزلوا على اصحاب القلعة لعنات مصقولة بحجر الزمن. وكلما اشتد بهم اليأس كانت الضواري تقترب منهم أكثر، فتكلتوا أكثر وعندما طال بهم الزمن كذلك، أخذوا يدفعون الأضعف بينهم الى الضواري بطريقة أشبه شيء بالقربان البشري القديم عسى أن يعفى عنهم، حينها تغيرت نظرة الضواري إليهم كان الاعتقاد الأولي هو أنهم مماثلون لهم مع فارق أنهم يأكلون بني جلدتهم كالضباع لولا أنه كان بالامكان تجاهل هذا التفاصيل، لكن أن يتخلوا عن احد أبناء جنسهم ويرمونه للضواري فهو سلوك غير مألوف في عالم الطبيعة.. التهموا القربان الأول فالثاني والثالث حتى عفت انفسهم هذه القرابين المقدمة لهم طواعية، فوضعوا نصب أعينهم المجموعة بأكملها.
لاحظت الجمهرة المتكومة على بعضها أن اعداد الضواري تنقص من حين لآخر، وحين التدقيق لوحظ أن عددا منهم يعبرون السور عبر أوكار حفروها سابقا، فاستعادوا بعض القوة وتجرأ بعضهم على المحاولة. كانت الحفرة ضيقة تتناسب واجساد الضوراي، وبعد مرور بعض الوقت كانت الأظافر قد وسعت الحفرة لتناسب جسد آدمي متوسط السمنة، وهكذا اصبح ذات الحفرة مناسبة للإنسان والضواري. عبروا الى الجهة الأخرى ظنا منهم أن الخلاص كامن وراء هذه الأسوار، وياللمفاجأة وجدوا اجساد ممزقة والناس تشرب دماء بعضها مثلما كانوا يفعلون، تجاوزوهم خلسة وحاولوا رفع مزاليج الباب، دون جدوى كان موصدا من الداخل كذلك.
0 تعليقات