ماذا عن مفهوم "الخيانة" المتأصل في السرد القصصي؟ وماذا عن انعطافه، من بعدُ، كفعلٍ سردي تجاوز جذوره معنىً وتحول لقشّة تعلقت بها شهرزاد الساردة!؟
من يسبر في قراءة القصص الواردة بين دفتي كتاب كـ " ألف ليلة وليلة "، لا بد أنه سيكتشف كيف تتجلّى الخيانة في ألف ليلة وليلة كحادثة فرعية تظهر هنا وهناك وكجُرحٍ أصيل شقّ جسد النص منذ مدخله الأول؛ فهي الشرارة التي أشعلت ثورة شهريار السادية، حين خانته زوجته كما خانت سابقةٌ زوجةُ أخيه ملك الملوك، فغرق في موجة انتقام قاتل وأقسم أن يطفئ غيظه بدم كل امرأة يتزوجها بعد الليلة الأولى. منذ تلك اللحظة، صارت الخيانة رمزاً اختزل قلقاً ذكورياً دفيناً، تجلّى في فقدان السيطرة على البيت والجسد والنسب كمظهر أخلاقي وارتعاش نفسي عميق في وجدان الحاكم.
تلك القراءة تتماشى مع الملاحظات التي ترى أنّ الحكاية الإطار نفسها تشكّل نموذجاً يعكس أزمة الملك الداخلية، إذ تتحوّل الخيانة إلى بوابةٍ لوعيٍ مأزومٍ بالسلطة والذكورة والخوف من الفقد.
وعندما تعتلي شهرزاد مسرح السرد، لا تسعى إلى إنكار هذا الهاجس، إنما تلتقطه بمكر الفن ودهاء الحكمة. فهي تُحيطه بصور متناقضة للأنثى: الخائنة التي تعكس مخاوفه وتعيد إلى وعيه جرحه وفي مقابلها تظهر نساء يفضن بالذكاء والتضحية والحكمة.
بهذا التداول السردي، يصبح وعي الملك الممزّق كمن ينظر في مرآة يرى فيها الظلال تطفو إلى جانب النور وتتحوّل القصص إلى مساحة علاج رمزي، إذ تُعرِّض شهرزاد الخيانة للضوء لتقرب الملك من جرحه، ثم تقدّم الوفاء لتفتح أمامه أفق الصفح.
إنها تداوي الجرح بالسرد؛ فالحكاية هنا فعلُ شفاءٍ لا مجرّد تسلية، والعشق المضادّ للسيف يصبح طريق الخلاص.
من أبرز الأمثلة التي تستحضر الخيانة في الحكايات نفسها قصة الصياد والجنيّ، حيث تُروى خيانات النساء كرموز للخطر الذي يهدّد النظام الأخلاقي والسلطوي، بينما في قصة التاجر وزوجته الخائنة تظهر الخيانة كواقعة اجتماعية تحاكي أزمة الثقة داخل مؤسسة الزواج. وفي المقابل، نجد حكاياتٍ مضادة مثل الوزير الحكيم وابنته العفيفة أو حكايات الإنقاذ والتضحية التي تنسج صوراً للوفاء والذكاء الأنثوي، فتوازن بين الخطر والخلاص، بين الخيانة كهاجس والوفاء كاحتمال خلاص.
وهذا ما تؤكّده قراءات نقدية حديثة تشير إلى أنّ شخصية شهرزاد تمثل اختراقاً نسوياً لهيمنة الخطاب الذكوري؛ فهي لا تواجه العنف بالقوة، بقدر ما توجهه بالكلمة، ولا تهدم النظام بقدر ما تُعيد صياغته من الداخل عبر فنّها السردي.
كأن شهرزاد تُعيد تشكيل وعي شهريار نفسه من خلال القصص التي تسردها، لتتحوّل الحكاية إلى أداة علاج جماعي للذكورة الجريحة، في حين يذهب النقد النسوي إلى اعتبار شهرزاد رمزاً للسرد المقاوم، الذي يُنقذ النساء عبر تحويل الحكاية إلى مقاومة عقلية ضد حكم الذكور.
وإذا وسّعنا أفق القراءة إلى فضاءات سردية أخرى، نكتشف أنّ الخيانة بوصفها جرحاً مؤسِّساً ليست حكراً على ألف ليلة وليلة ولكن هي ثيمة إنسانية تتكرّر في سرديات الشعوب كآلية رمزية لإعادة ترتيب العلاقة بين الحب والسلطة والمعرفة. ففي الديكاميرون لبوكاتشيو، تُستعاد الخيانة في أجواء الوباء والعزلة، حيث تتبادل الشخصيات الحكايات لتطهّر نفسها من خوف الموت، تماماً كما تفعل شهرزاد وهي تروي لتؤجّل الفناء.
وفي الملاحم الإغريقية، تظهر “هيلين” سبباً للحرب والخراب، غير أنّ النصوص اللاحقة أعادت تأويلها بوصفها مرآة للرغبة البشرية وجمالها المدمّر، على نحوٍ يشبه تحوّل “الخائنة الأولى” في ألف ليلة وليلة من رمزٍ للعار إلى محرّكٍ للوعي والتغيير.
أما في التراث الفارسي والهندي، فتتكرّر صورة المرأة الساردة التي تنقذ الرجال من غيّهم بالحيلة والحكاية، وكأن السرد الأنثوي في هذه الثقافات يمارس وظيفة كونية واحدة: أن يُحوِّل الخيانة من لعنة إلى فعل معرفة ومن الخوف إلى توازنٍ روحي جديد.
في النهاية، ليست الخيانة في ألف ليلة وليلة إدانة مطلقة للمرأة بقدر ما هي اعترافًا بجرح الملك ومفتاحاً لرحلة خلاصه. لقد انقلبت الدماء إلى حكايات والحكايات إلى حياة جديدة؛ وصار الموت الموعود حبّاً متجدّداً ينهض من ركام الغدر والخذلان. في قلب تلك الحكاية الكونية، يرتدي السرد قناع الأمل ليصير طقسًا للخلاص، وكل ليلةٍ تنتهي إلى فجرٍ جديدٍ يشعّ بالصفح والبداية.
===
*المراجع والإشارات النقدية
-بوكاتشيو، جيوفاني. الديكاميرون. ترجمة صالح علماني، دار المدى عام 2006.
-هوميروس. الإلياذة. ترجمة دريني خشبة، دار ظمأً للطباعة والنشر سنة 2017.




0 تعليقات