تُظهر القراءات الانطباعيّة بصيغتها النقدية جماليّة النصوص و تمهّد السبيل إلى التوغل  في غياهب الكتب على اختلاف مواضيعها، ذلك أنها تقوم بتبسيطها وفق طريقة أدبيّة محبّبة يستسيغها القارئ الأمر الذي يُسهّل عليه فهم فحوى الكتاب، ولأجل ذلك يمكن تقديم قراءة انطباعية لرواية "كوكبة النسور" للمترجم و الشاعر و الروائي الكردي كاميران حرسان، إذ اشتملت روايته على  194 صفحة من القطع المتوسّط، ومن إصدارات هيئة الثقافة في إقليم الجزيرة بسوريا  لعام 2021.

مطلع الرواية تستوقف القارئ هذه الجملة المفتاحية "سار مع أبيه وسط الشارع  متألِّما ، يده في قبضة السجّان ، وروحه مُصَفّدَة ، لديه توق، رغبة عارمة في الهروب بعيدا للتخلّص من قيد الأبوّة الغليظ"، لتترك أسئلة كثيرة ترتحل في خاطر القارئ  وعقله مع هذا المشهد بين الأب و ابنه، إذ إن هذا الضغط الأبويّ بنتائجه الشديدة الوطأة على نفسية الفتى جعلت من وصايةِ الأب قيداً وجب عليه التخلّص منه. رغم أن الأب كان يتوخّى الخير في سلوكه هذا، ظاناً منه أنّه سيحتويه تحت دفء جلبابه. غير أن ما يُفرض عنوةً لا تُحمد عواقبه ولو بعد حين! إذ كان هذا في نظر شخصية الرواية المحوريّة "مهيار" سَلباً لحرّيّته بعد أن عاشَ طفولةً مزدهرةً في مدينة عامودا، أقصى الشمال السوريّ.

عالجَ الكاتبُ هنا مواضيعَ متعلقةً بالمشيئةِ والرغبات المتنافرة عارضاً في سردهِ أوجهاً متنوعة للظلم، فظلم الأبِ لابنه، هو في شكلٍ آخر ظلم الراعي لرعيته. وداخل هذا السجال، يرفعنا الكاتبُ بعيداً إلى حيث قمم الجبال حيث تدور رحى المعارك جوارَ عجلةِ الحياةِ الهادئةِ، الثريةِ بتفاصيلها، المدارةِ برياحِ الثقافةِ والفنون.

عامودا أو عاموديّ أو آميديا  كما يسمّيها  "باران"  جدّ "مهيار: المدينة الوادعة، المتجاسرةُ بكبرياءٍ على ظالميها، فيها حطّم الأهالي مرتين تمثالاً منتصباً وسط المدينة، اعتبروه رمزاً من رموز التبعيّة و السياسات الجائرة.  وما أن يطوي القارئ داخلَ الرواية فصولاً سيشعر بلُحمة متينة تربط الشخوص ببعضها البعض، وفيها  تتجلّى عامودا كما لو كانت عائلةً واحدةً، موسّعة، بكل جغرافيتها انحداراً من الجبال البادية لقاطنيها إلى سهولها الشاسعة. 

في "كوكبةِ النسور" يتفاعل القارئ مع أحداثٍ تخلل الرواية منساقاً وراء عذوبةِ اللغةِ وسلاسةِ الأسلوب، الذي اشتغل عليه كاميران وصفاً و سرداً، وبصورة تجعل القارئ يبتسم ويذرفَ الدموع ويغضب ويصارع أمواه النهر العالية ثم يجلسُ ليستمتعَ بقبةِ السماءِ ونجومها البديعة.وكل ذلك في أسلوب سرده المزخرفِ بالشاعريةِ.

مع تتالي الأحداث، يأخذنا كاميران في رحلةٍ شائقةٍ إلى حافاتِ "عامودا" وأعماقها رفقة قصصٍ مسلسلة تختبر عواطفَ القارئ ومشاعره، مُمرِراً بمهارةٍ خيوطَ الأحداثِ من المدنِ بسهولها الفسيحة إلى الجبال الوعرةِ حيث يترصّد مهيار و "الثوّار" حركات العدو وسكناته.

وبأسلوبٍ  سائغ مبنيّ على معطيات التاريخ، تنطوي فيه وتميل على جزءٍ هامٍ من لوحاتٍ  نضاليةٍ متلونة بالجرأةِ والشجاعةِ أبرز الروائي سماتها، ذهبَ إليه  مهيار انطلاقا من تمرّده على سلطة الأب بقيمها المهيمنة المتعاليةِ على رغائب الابن ومن ثمّ تجشّمه عناء المصاعب بين الجبال الشاهقة وأدغالها في ملحمته الشخصيّة ضدَّ جورٍ أعظمَ متمثلاً بـ"المحتل". 

ثمّة رمزية مستترةٍ بين تخاريمِ تمرّد مهيار على  سلطة أبيه وكفاحه المسلّح ضد مستعمري كردستان من أجل حرّيّة شعبه إذ كان للكاتب هدف متسامٍ على عدم قبول الواقع المعتلّ وبذا قدّر له أن ينفخ الروح في جسد الماضي من أجل قراءة الحاضر و استشراف المستقبل. 

الرواية جاءت في ثمانيةَ عشرَ فصلاً، نسج فيها كاميران الأحداث نسجاً محكماً، وبلغة شاعريّة مبهرة، انطلاقا من المكان الأمّ وسحره (عامودا)، تلك البلدة الفتية الحالمة التي أضاءتها قناديل متباعدة، حيثُ يرتفعُ بكاءَ بطلها الوليد "مهيار"، في فجرٍ دامعٍ، بعد نبوءة عمّه "هوزان"،  حين طاف براحة مسعود مانحاً إيّاهُ البشرى: "ستُفرج، ستمنحك السماء قمراً بديعاً نوراً لا مثيل له"، وهكذا تبدأ رحلة الرواية لتنطلقَ الشرارةُ وتبدأ خيوطُ الحبكةِ تتداخل في نزهةٍ روائيةٍ قوامها ثمانية عشرَ فصلاً مكتنزاً بالإثارة والأحداث!  

صحبة لغةٍ تأرجحت بين صعب عميقٍ و سهل ممتنعٍ، مع شخصيّات أخذتْ من تجلياتِ الطبيعة أسماءها الكردية: مهيار "عاشق القمر"، باران "الغيث أو المطر"، برفين "بياض الثلج"، هوزان "المغنّي الشادي"، بروان "الفراشة الزاهية"، وغيرها من الأسماء، دون أن ينسى تتبيل الرواية وتلوينها بأسماء كمسعود وبشير ولطيفة وغيرهم، لها معانيها و دلالاتها بالعربية .

لم تحمل الرواية في طيّاتها الحزن أو الفرح أو السعادة أو التعاسة فحسب، بل حملت العديد من المتقابلات الأخرى كالليل والنهار، النور و العتمة، الغيث والجدب، والأهم الصراع بين الخير و الشر.

قد يتساءل القارئ عن فحوى العنوان، الذي لن يكونَ سوى عشٍّ معلّقٍ بينَ سطورِ الروايةِ، على قممِ حبكتها وبينَ نسيجها الأزرق خطوطاً بيضاءَ غائبةٍ في الرمزية! ليجدُ الكوكبةَ في عامودا و أختها  القامشلي،  ويجدها في تعاضد الأهالي حين وفّروا المستلزمات الطبية لجرحى الثوار في الجبل، ثم في النساءِ والرجالِ من عائلةِ "غولك"، أمّا الكوكبة الكبيرة فهي "فرسان الشمس" ونضالها المسلح ضد الإستعمار الآثم.

اصطفت كوكبة النسور لنفسها مستقراً في الجبال الشاهقات، فيما الاسم عميق المعنى و المجاز  " فرسان الشمس"، ولعلّ من أحب النور أبداً لن تفتنهُ الظلمةُ أو تغويهِ طيورها، ومن يحارب تحت لهيب الشمس لن يفزعهُ انفجارُ  قذيفة، ومن اختار الشمس فقد اختار "الحق" والذود عنه. 

وفرسان الشمس فرقة ثائرة تحارب جنباً إلى جنب ذكوراً و إناثاً في أعالي القمم : كالمقاتلة هوار، وجيهان الطبيبة التي عاشت مغامرة  كما يعيشها الشجعان.

تؤرّخ الرواية لأحداث تاريخية حقيقيّةٍ كالإبادة الأرمنية: "ألم تقم تركيا المسلمة بمجازر فضيعة بحق المسحيين راح ضحيتها أكثر من مليون أرمني،  فكانت النتيجة أن أفرغت بلاد الأرمن من أهلها "، كما تقف الرواية على ثورات الربيع العربي ونكباتها وما نجم عنها من تفشٍ للعنف: "ارتدّ الخطر سريعاً إلى هذه البقعة المحرّرة عبر الإرهاب، تنبّه الكرد إليه فنظمت الصفوف حتّى تراصت بالمتطوعين من الفتيان و الفتيات يتعاونون على حفظ الأمن و التصدّي للشر". 

الرواية مزيج بين الخيال والواقع والتواريخ المعيّنة، وقد استطاعَ حرسان بحرفيةٍ فائقةٍ أن يدمجَ عالمهما في لوحةٍ مثبتةٍ على دعامةٍ من التطلعِ والتشويق.

كاميران حرسان: شاعر ومترجم وروائي كردي مقيم بالسويد منذ أكثر من ثلاثة عقود، له العديد من الإصدارات منها : المدخنة التي امتلأت بالدبابير (شعر)، راقص آخر(شعر)   غربان طائرة (رواية)   رشيقاً أعمى كالدمى (شعر )نجوم من أعماقها (شعر) بورتريه لمدينة صغيرة (سيرة روائية)، وللكاتب أيضاً ترجمات مميزة عن السويدية:  لو كانت البولندية هنا لوارنر آسبنستروم - على سجادة السماء الزرقاء لغونار إيكولوف.


الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).