1
يبدو أن أفلاطون طرد الشعراء من كتابه " الجمهورية " ليس كرهاً لهم، وإنما حباً بهم، حيث رأى أن المدينة التي قاسها فلسفياً لا تليق بهم، إنما خارج أسوارها، أن مكانهم الطبيعة، أو البرّية، ليعيدوا في أنفسِهم الشّعرية دورة الأشياء، دوام وجودها، ومن هناك يمكنه أن يتعلم منهم ودون أي إشارة مباشرة إليهم، كيفية رفْد خياله الفلسفي بما ينير به فضاء مدينته: اليوتوبيا. حيث الشعر في نشأته إعلان بدء ونفي له في آن، ليكون في مقدوره أن يهيم على وجهه ليمكّنه هذا اللاوجه من معرفة لاتناهي وجوه الكائنات الفعلية والمتخيلة، ووجه الشاعر ضمناً طبعاً، وبذلك يتحقق اللامشروط في علاقة الشعر باللغة: أن يكون لغة وما يتعداها. دونها لا يكون، وبها لا يعود شعراً، فيركّبها كما لو أنها هي وليست هي، وبالطريقة هذه تكون سلسلة ولادات الشعر، وخاصية العجيب باسم ما، ألم يقل جول باربي دورفيلي ( "في كل الشعر يوجد صراع سري بين ما لا نهاية للمشاعر ومحدودية اللغة التي يحيط بها هذا اللانهاية دون أن يكون محدودًا.).
حسنٌ. هوذا خالد حسين الباحث الأكاديمي يقاوم في ذاته اسمه المعروف بلغة محيطه، ليتهيأ لقول ما لا تألفه تلك الذات، متجاوباً مع أفلاطونـ" ـه " سعياً في مناكب الأرض، ليلتقي مستحيله الممكن شعراً، كما هو الوارد في مجموعته الشعرية الأحدث ( رشقة سماء تنادم قلبَ العابر)، منشورات Nûs House ، لعام 2025، في " 124 ص " مجموعة شعرية حاولت رسْم خريطة تحركاتها بين سماء يطمح إلى بلوغها وأرض يطمح إلى استغراقه، دون نتيجة تُذكَر، وهو ما يمثّل رهانه، حول الشعر وصِلته بالحقيقة: الحقيقة غير موجودة، بمواصفات معينة، فكيف الحال مع الشعر هنا، وما هذا اللعب المقصود وبأجنحة المتخيل إلا إمضاءة على أن الشعر هو أن تقول ما لا يقال، وتسمّي ما لم يُسمَّ بعد، فتكتسب حضوراً من جنسه .
كيف لسماء أن تكون لها رشقة " رشقة واحدة " وقد أعطيت يداً، وهي تنادم مجهول اسم" قلباً " لم يُحدَّد مكان إقامة له، وما في المنادمة من ألفة ومؤانسة ورغبة مجاورة، وهو في الوقت نفسه " قلب العابر "، ليزيد " طين " المبنى " بلة " معنى؟ أليس لأن في هذه الحركة اليدوية المتخيلة بسرياليتها، اعتكاف في الطليق، في نزع الحدود، حيث العابر لا يُعرَف من أين جاء، وإلى أين يمضي. العابر في أصله نزع لأصل المفهوم، وهو مأخوذ بقلب فقط، يتولى أمره، وهو " فص " روحه، ليزيد في فضول قارئه عما يكون، وما ضرورة تجلّيه هكذا: العابر، تذكير بمكان، بعبور، دون تحديد وسيلة نقل، أبذاته، أم رفقة ماذا؟ ولماذا " العابر " معلوماً، وليس " قلب عابر "؟ أليس لأن السماء التي هي عبارة عن فضاء واسع لامتناه، هي التي دشّنت مثل هذه اللحظة التي تقلق ساعة الزمن؟ وجود موجوده بالذات؟
ثم ما هي هذه الرشقة العائدة إلى سماء، وليس السماء، ومن علوّ، كما يظهر، وهي مقدَّرة من جهة العلاقة والمسافة، والرشقة تكون مفاجئة، أو قد تأتي على غفلة، وتبعث على اليقظة أو التنبه، كما لو أن رشقة سماء هذه، وهي غير معلومة أو مأخوذ بها في وقت معلوم، تستوقف الغافل عما يجري حوله، أو توقفه، للنظر في هذا الراشق، وقد صار قلب العابر، وليس أي عضو آخر فيه مرشوقاً، وما في هذا الاستبيان الضمني من استرسالات تكاد تملأ المسافة الفاصلة وهي في عمقها، بين الراشق والمرشوق في أهم عضو" عضلة " فيه، وما في هذا التوجيه من تسمية ما لوجود لا يحاط به، كما لو أن القلب هو الشاهد والمترجَم لغة إلى ما فوقها مجازاً.
وللناظر إلى صورة غلاف مجموعته الشعرية، ربما يهتدي إلى تفسير جانبي، ولكنه جدير بأخذه، حيث الصورة هندسية، تغيب الصورة لوجه أنثوي، ثمة اللافت فيما يشبه الجديلة في انحناءاتها، ونصف الوجه جانبياً وكوكبية النهد، وفي فراغ يملأه أسود، يثير حفيظة الفنان، والمدرك لجسامة امتداد لون كهذا، يضم مختلف الألوان، إلا من خط بالكاد يستقيم ضوئياً كما لو أن خط أريان صوب " جزته الذهبية "، كما لو الصورة: اللوحة ترجمة فنية بصرية لخاصية الشعر الكبرى: أن يُعرَف ولا يعرَف، لأنه هكذا يكون !
2
في مقدور قارئ المجموعة الشعرية أن يمارس لعباً في تركيب الكلمات، وفي كل مرة يكون إزاء عنوان: رشقة قلب العابر تنادم سماء- سماء تنادم رشقة قلب عابر-قلب ينادم سماء في رشقتها...إلخ. كم هي لغة الشعر مضيافة، صريحة بوفرة معزَّزة من المؤالفات لمن وُهِب الخيال القادر على تقدير هذه الضيافة.
ولكنها ضيافة لا تكون مجاناً. ثمة مكابدة لا مفك منها لمن يقبِل عليها، كما هو الشعر بطبيعته الخاصة، وما لا يخرج على الألفة المعتادة: أن تكون كما لو أنك لست أنت لتنال اعترافاً. لأذكّر بمقول كارل ساندبرغ( الشعر هو مذكرات حيوان بحري يعيش على الأرض ويرغب في الطيران ). دون ذلك لا يكون الشعر شعراً، أي لا يكون المتقدَّم باسمه اضطراراً، شاعراً، وقد دخل في حمّى اللامسمى: أن يكون أورفيوسه بحثاً عن المستحيل: وجه حبيبته يوريديس التي تكون " خلفه " في عالم الموتى، ويُرتجى انبعاثها، أو استعادتها، وبينهما مسافة لا تُقطع، إلا عبر الرؤية عن بعد: يموت من أجلها، ليحيا أو يستمر في الأبدية من خلالها، هكذا كان روميو مع جوليت، مم مع زين، إذ لولا هذا الموت المفرّق لما حصل العناق الأبدي في الشعر.
ولـ" فُسَح " خالد، بداية أن تضيء هذه النقطة الصاعدة بخلافها:
فسحة1: جمالك العميق كذاك الليل..!
المساء في رهافته، الرغبة في ضبابها الكثيف
غبطة السماء، مدارج اللهفة وكستناء الشتاء
كإبهام يتألق على حافة المساء ..
وليكون لمشهد الاقتباس حراكه الجمالي أكثر:
فسحة2: كنجمة ترعى الليل في أنينه الأخير
زهرة اللوتس أو رنين الحب في ممرات الليل
رشقة سماء تنادم قلب العابر
مفتوناً بالرخام في ندائه . ص 3
يضطر قارئ خالد الشعري أن يسايره في لغته، ليس بنوع من التنافس في التركيب، وإنما في الدخول في مكاشفة ممكنة، تقيم حواراً بينياً، بين ما لا يُقبَض على معناه في مبناه، من جهة الشاعر، وما يقبَض عليه في معناه وليس مبناه من جهة القارئ الناقد، وما في هذا النوع من العلاقة من توسيع نطاق الوعي الآخر.
أن يكون الشعر إقلاق اللغة المعتادة، بقلق الوجود غير المحاط به، ولزوم ما يلزم ناحية المفردات المخوَّلة في أن تمارس الدور المنوط بها مجازياً، هو أن يكون البدء غداً، حيث الشعر وإن يؤرَّخ له في زمانه ومكانه، ولكنه ناشد آتيه، وكونه فجيعة وجود قائم كان ملهِم شاعره هكذا.
في الفسحة نفسها، ما هو سمائي وأرضي، وبينهما هذا الكائن الضعيف المستضعف: المرشوق بإشارة وجود في أهم نقطة حيوية داخله: قلبه، وفي الفسحة ما يجري النظر فيه، أو الانتباه إليه، وتأمله، ولا بد أن هناك ملئاً يسمّي الفسحة، وهي متنوعة في مشاهدها، تعبيراً عما ينبضه قلب العابر إشارات ورموزاً:
ماالذي يصل قلب العابر، وربما هو مكلَّف تخيلي لشاعره، برشقة سماء، سوى حس الانتباه إلى وجود هو نفسه علامة عابرة فيه؟ والمترجَم يعزز هذه العلاقة، في تجنيس المخاطَب: أنثوياً، وما للتأنيث من تأثيث للمشتهى أو المفقود المنشود، وفيه غموض مستفهَم: كيف يكون جمالها العميق كذاك الليل، حيث " ذاك " يشد إلى بُعد قائم، وليس عن قرب؟ وأي جمال عميق يكون، نظير ما يصعب النظر فيه" الليل "؟ إنه الاستغراق التخيلي في لعبة المتشابهات في اختلاف تمثيلاتها الجمالية: هي بجمالها العميق" وهو يتطلب سبراً لقاعه، وكيف يكون "، والليل الذي يمتد بحراً ممتداً ومنتشراً محيطياً، يتلبس كائنه، وفي الوقت الذي يتراءى الشاعر على مبعدة، أم تراه داخلاً في جهة ويرسم إحداثياته الشعرية بطريقته؟ أي يشمله الليل!
يتطلب العمق مكاشفة مقاوِمة، وافتتاناً، جهة الجمال، والليل لا يخفي رهبته، إنها لفتنة معاكسة، ولكنها في تفاعلها مع فتنة الجمال، إشعار تهجين، لتوليد معنى يهيب بالقارئ لأن ينطلق هو الآخر بخياله جامحاً.
ثمة ما يبقي القارئ خارجاً: المساء مستهل الليل، وما أعطي له في الرهافة، من أثر، ولتكون الرغبة مأخوذة بضبابها الكثيف، إحالة إلى رطوبة، إلى تفاعل، إلى طبيعة نشطة، ولنكون تالياً مع مفردات، وليس من مفردة إلا وتكون محمّلة أرواحياً، بما ليس لها وفيها في المألوف اليومي: غبطة السماء، مدارج اللهفة، كستناء الشتاء، تألق إبهام، حافة المساء.. وصولاً إلى رعي النجمة، وأنين الليل، ورنين الحب، وما يصلنا بالعنوان الرئيس للمجموعة الشعرية، ودفة القول المركَّز جهة الدلالة، وما يوهَب الرخام من نداء...إلخ.
لسنا في مجال تفكيك كل اقتباس، ذلك يشكل تشريحاً مخبرياً، ربما يجرّد المشهد الشعري من حيويته.
أليس في هذه المتواليات التوصيفية لقائمة المفردات المنتسبة إلى الطبيعة، ما ينعطف على الشاعر نفسه، وهو أنه يمارس هو الآخر لعبته الخاصة، على وقع " رشقة " سماء؟ أليس في هذه التوصيفات ما يشير إلى أن هذا العابر لا يستهان به، وهو يستخرج قوة من ضعف، تمثّل وجوداً مفارقاً يعنيه، ويستبقيه بعدئذ، لأنه يخرج الأسماء من تبعاتها الطبيعية، أو كما يُقرَأ عنها، بتذييل من شاعر، يحيل عالماً كاملاً إليه ؟
قد يتلمس القارئ في هذه المشاهد نداء الأقاصي، نداء العاري، المجرد من ذلك الصحو الذي يفيه حقه في الإحاطة بالمعلوم والمفهوم في محيطه، والحيلة الناقصة في تجنب الوقوع في فخ الموجود.. ربما كان هناك ما هو معقول، ومعطى بالطريقة هذه، وإلا لما أفصح لسان حال الشاعر عن هذه المفارقة، عن هذه الدهشة التي انبنت على خلفية الرشقة " العلوية " تلك، والانفجار برشقات من لدنه هي تحميله لمفردات الطبيعة: السماء، المساء، الليل، اللوتس، الرخام...إلخ، ما يبقيها في حمَاه الشعري. إن كل علاقة شعرية، تمتد صوب المجهول، أو الغريب، أو العجيب أو النوعية، تنطق في صميمها بذاكرة حميمة حامل بوجود متخم بتلك العناصر والأجسام والهيئات والكائنات التي تنتمي إليه، والشاعر ضمناً، ليكون القلْب في التمثيل مغايراً.
إن إخراج الشيء وقد أعطي اسماً ووسماً، من المعتبَرة" طبيعته " إدخال له في الممنوع من الصرف، وقد أجيزَ له هذا الصنيع العليم، طالماً أن في المسلك الشعري هذا مأثرة النطق بحكْم فيه ثناء على الفعل المجاز وهو يلحق الوجود بمضاف إليه، هو علامته الفارقة في التجويد، كما لو أن المسطور شعراً، عود أبدي لما كان في نشأته الأولى خارج متن المؤرخ، وفي هامش الشاعر طليق هوميروس، وطريد أفلاطون اعترافاً بمهمته المنتظرة، وصياغة مستمرة لتكوين مؤجَّل، وما في ذلك من رهان على غده .
3
ربما أشدد على قول بودلير الطريد الأفلاطوني العظيم قدْراً في برّية هواه، وهو ( ليس للشعر هدف آخر سوى ذاته )، ليس حباً ببودلير حصراً، إنما بالناطق الشعري فيه، بذاته التي تتكلم لغات مختلفة. إن إعمال جرْد للكاتب عموماً والشاعر خصوصاً، يفيدنا علماً هنا بما لا علم مؤكداً لنا به، وهو أن الذات بفوسفورياتها تنطوي على تناهي نسخها أو وجوهها، والشاعر نزيل خضم روحه والسابح في عليائها، أي المرشوق بما هو سماوي، ومن جبلة أرضية حية، هي التي تفيّز لخيال الشاعر هذا، وتمنحه حضوراً مستوفياً لشروطه.
في الذي يتهجاه خالد " رشقات " مائية، وما للرشقات من إيقاظ وإنماء وعي، نكون إزاء صيرورة علاقات، تفضي إلى سواها، وسوى سواها، وهكذا دواليك.
في المستعاد عنواناً تأكيد على الآتي طيه وما يتعداه رؤية، في 1-جمالك العميق كذاك الليل.
1
مشهد صباحي: هوذا فنجان القهوة العاشق لأنفاسك، شالك المرمي بعبثية
غريبة على كتف الكنبة، شالك الذي يناكد عجرفة الترتيب
في هذا الصباح الهادىء. ص 6 .
لا يعود الإيقاع هو ذاته. يخرج إيقاع المعنى السالف عن طوره، بطور يتناسب وصنعة الجديد. حيث الصباح بدء معلوم لزمن معلوم، وما له من دلالة لافتة. إنما ما يقصيه عن الآخر مطلوب قلبه العابر، ساكن وجوده المثقَل بالإحالات وكمدها، ويدنيه تخيلاً، حيث فنجان القهوة وسيط والأنفاس تمثيل حركي، وما يكون في طوع الشال من تصوير يشد النظر إلى الجسم اللابس، ثمة نزق، قلق، توتر، اغتراب في الموصوف، ومفارقة الموصوف زماناً ومكاناً" الصباح الهادىء " فيكون المحصَّل إحداث تغيير في الصباح مفهوماً.
حين يكون البدء هدوءاً، ويخالطه حضور صاخب، ينبئ باللامشتهى، فلا بد أن حدثاً ما يخل بمبدأ الوجود، يمرئي علاقة قائمة هي فسحة المفترقات والمفارقات، ولسان حال الشاعر " مؤشّره " وشاهده على وقْع مرصود في المشتهى صباحاً، والصادم في آن، لأن شعوراً بوطأة الوحدة، بالعزلة الموجعة يرسمل ذلك.
في الإشارة إلى الآخر، وهو داخل خميرةً في عجينة المنادي، دعوة إلى يقين يُعرَف به، ليكون الصباح كما هو المعهود فيه هدوءاً، ولتكون القهوة حداً وسطاً واصلاً بين اثنين يتناظران عشقاً.
4
يبدو أن الشاعر محكوم بغربته، باغتراب روحي، سواء مباشراً كان هذا التعبير الخطي أو غير مباشر لحظة النظر في بنية الملفوظ. وأن اعتماد توازن يتوقف على كيفية بلبلة الوجود في خطاطته، سعياً إلى وجود يتضمنه، ولأنه ما كان له أن يبث شكواه المحمَّلة شعرياً إلا لأن المعايَش صعب تقبّله هكذا.
كأن الخروج إلى الآخر، سلخ لجِلد الذات وضد زادت ضيقاً على روحه. وما هذا الاستدعاء لما هو منتشر في الطبيعة، وهذا الاستدعاء لتلك الأسماء التي توفّرها له الطبيعة، إلا لإبراز فجيعة وجود يعيشه.
هوذا الحال إذاً، أن يكون ( الشعر صرخة ضد العادة ) بتعبير هنري بيشيت، وفي المقول الشعري لخالد صرخة منجرح في وجود جارح بمن يدير شئونه. هناك التوق إلى المفقود، تغنّ به:
يا لهذا المساء في رهافته...
معزوفة كيهان كلهور تمضي بالعاشقين إلى رنين المسرة...
لا شك للعدم، باقة الورد على الطاولة الصغيرة تومض بأنفاسك ..ص 14
بين إبراز لمحاسن وجود، ومساوئ المضمر، يمارس الشعر حياته الرمزية، ما يخرجه عن حكْم القرطاس أو مجرد القول، ليرسم عالَمه الذي يُستجاب فيه لخيال مرشوق في جنباته. وما هو في معرض الزخرفة الدلالية وبروز أثرها، إمعان في توكيد الرغبة لدى الشاعر، تعبيراً عن حنين موجّه إلى وجه مقابل، وجه يجري إظهاره بما يمنحه غواية الإلحاح على استدراجه إلى نطاق رغبته الضارية.
الأجسام بمواقعها ومسافاتها الفاصلة ولبوسها المجازي، تقوم بأدوارها المقنّعة، وإلا لتلاشى الشعر. ثمة ما يطيب للشاعر أن يفصح عنه، وما يؤلمه، لأن فقداً لمحبوب هو الذي يستنطق رغبته بالغائب المنشود. وليكون وراء هذا التوق المتنامي والحلزوني هيئةً، تشهيراً لوجود يقنص فيه كل رغبة موصولة بموضوعها الطبيعي، أي حيث يكون الفصل متنفَّس الشعر في إطلاق العنان لقلب عابره المستهام، وطعناً في الوجود.
يكون المرئي منصة لرؤية المفارقات، وتشخيص مقدَّر لكينونة شاعر داخل في الوجود ومعذّب به .
5
في بنية متخيل الشاعر ثمة السعادة المعذّبة لقلب العابر الذي يتلبسه حتى النخاع، وربما يفيض جهراً بشكوى تنثر أناتها وآهاتها وهيئات مكابداتها خارجاً عبر منتدَب لها هي الكلام. إنه حلْم مختلف بجنسه ونوعه. والشاعر حالم بقدّر ما يكون حضور الشاعر فيه جلياً، حلم يتوقف عليه، وهو ماض بوصفه شاعراً. وما يأتي كلاماً، هو حصاد الحلم المتداوم لديه:
تنتفض الغيوم بأثقالها،
يا لهذه المرآة بأمواهها وضفافها،
ما سر الكائن في الغبش،ـما سرٌّه يفترع جليدها غائصاً في
زمهريرها ..ص 25
في العودة إلى الحلم، ثمة ما يُسمى، ويبقى منفتحاً على اللامسمى، ليستمر في لامسماه بتنوع مقارباته الدلالية، كما هو الحلم الذي يفيدنا بذائقة شعرية عما يعلو الشاعر ويحوطه طبيعةً.
ومن المؤكد أنه ( بدون الأحلام، لا يوجد شعر ممكن. وبدون الشعر لا توجد حياة محتملة ) كما يقول فاليري رادو، يصعب التفاعل مع الحياة، والحلم للشاعر أو الفنان حلْم الحلم لأنه نزيل موهبته، أو ملازم روحه المفعمة بالآخر في الوجود. وما بين " كائنات " الشاعر اللفظية لا مجال لأي وسيلة تسّوغ وصلاً يؤخَذ به منطقياً بين مفردة وأخرى، كما هو الموصف في الاقتباس: انتفاضة الغيوم، أمواه المرآة، وافتراع السر لزمهريرها...تلبيس الجسم بما ليس فيه، أو ليس له يد فيه، إعمال للغة المفارقات وفحواها: أن الشعر حاضر طالما أن هناك غياباً مدروساً ومنتظماً للمألوفات، وليكون للشاعر صوته، رنّته المختلفة، وجهه المفارق للمرئي في واقعه اليومي. إنه ضلوع في إثم التسمية، والوحيد الذي يحلَّل له تصرف كهذا، وهو في فعل التصعيد بما يهمه ويضمه إليه في وجود لا شك أنه ضاغط عليه، وهو في تطويعه للغته الأخرى.
6
هناك عناد ميسَّر في لغة الشاعر، تكثيف للحظة الشعرية التي يسوقها هنا وهناك، وعي لا يخفي حصافته في رسم الحدود بين الكلمات، لتكون أكثر تهذيباً، أي داخلة في مضمار ما تتوخاه رغبته، واستئثار بالسر :
أبحث عنك وأمحوكَ
قبل أن تشي بك غفلة ٌ
تمثيل لها، ونطْق باسمها في النداء المغاير، أو المخاطِب، تعبيراً عن حرص على سر لا يباح هنا، والمجاز لم يكن يوماً خائن السر، إنه يقينه الذي يشد في عضده، جهة التقدم بما يزيده غواية وقوة أثر، ودونه يصعد الشعر بكامل حمولته إلى السطح، ويغيب عن وعي وجوده، والضمان هو الاستمرار في العمق. الغفلة مهماز يخشى منه، وما يهم المنشود هنا هو أن يبقى محمول روح طالبه، نوعاً من التملك لبقائه شاعراً. إن لقاء الحبيب بالمحبوب، عملياً يشكل قصة تنتهي بمجرد الانتهاء من سماعها أو قراءتها، بينما في عدم اللقاء في التباعد، يكون للفضول دوره في تعظيم مأثرة هذا الفاصل وتفخيم الحب، كما لو أن المحبوب في الشعر متوجب عليه أن يكون مازوشياً في متن روحه، ليكون شعره طليقاً ومحلقاً باسمه.
ألم يقول خوسيه أورتيغا ( إن الشعر اليوم هو الجبر الأعلى للاستعارات. )؟ حسنٌ، كيف يمكن الدخول في فضاء المقروء شعراً دون أخذ علْم بمثل هذه الاستعارات وتكوكبِها في دورانها حول اللامسمى المؤثر؟
كيف يمكن تقبّل علاقة كهذه، في :
أيتها الغزالة
سبيُّ ظلالك، أسير أحاديثك المتألقة بماء الأحلام
فخذي القلبَ بقوة . ص 68 ؟
تلك المنشودة لا تعرَف ولا تلفَظ باسمها، لأن مجرد التسمية ينزع عن الموصوف بهاء المعنى، ليكون لبراءة المعيش بريةً ما يزيد في بقائه. تكون تلك الغزالة، بـ" أل تعريفها " يكون هو سبي ظلالها، وليس سبيها، أسير أحاديثها، وليس أسيرها.. لهذا كنتيجة تطالَب في أن تأخذ القلب بقوة.. وما في اللعبة التناصية هذه، على مشتهى " خذ الكتاب بقوة " مثلاً، ما يكون استحقاقاً، ما تجازى به الغزالة، وهي ربيبة طبيعتها، وفي هذا المرام يكون المستدام في الشعر، أي كون الشاعر نفسه نزيل البرّية، فلا ضير أن يكون الملفوظ متجاوباً مع البرّية بقوامها الطبيعي. ألسنا إزاء استعادة معينة لأنكيدو، قبل آلاف من السنين ؟
7
تباينات القول الشعر دمغة معتبَرة ذات رأسمال رمزي تليد. ففيها يمارس الإيقاع الشعري بموسيقاه المضمرة بقاءه ونقاءه وتحولاته في الوقت نفسه.
الجمل التي تتناسل من متخيل الشاعر، ليست منتظمة، ليست مأخوذة بحساب طولاً أو عددً كلمات، إنه الرهان على المباغَت والمستولّد من التباينات. موسيقى لا يساكنها روحياً إلا من له ذائقة شعرية، ولا يمكن الوقوف على حقيقة هذه الموسيقى إلا عند الامتلاء بدفقها، أو تلمّس سريان فعلها.
نعم بتعبير فولتير ( الشعر هو نوع من الموسيقى: عليك أن تسمعه حتى تحكم عليه )، ولكنها موسيقى لا تُسمى، لأن متعة الإصغاء هي في عتمة البوح بالمفترضة حقيقتها:
كلانا غدر بالآخر
وخيَّب ظلال الشجرة.. ص 87
شجرة
تصنع أفقاً للقصيدة،
صباحها لغة تفشي أسرار المسافة . ص 104
وردة حمراء مركونة إلى الأفق
عاشقان يندلعان في صرخة مارقة . ص 118
لا يُقرأ الشعر إلا بلسان متاخم لمناخه التخيلي، والشاعر متروك هنا لتأويلات قارئه، وهو نفسه داخل في صراع المقاربات وتبعاتها النفسية والتشهيرية أحياناً. حيث يتداخل الظن واليقين، رغم أن ليس من ظن أو يقين بالمطلق، فلكل منهما جمال الاقتباس والاستئناس، وإيعاز إلى صواب التقدير والتدبير.
ناسج الجمال وحده، يمكنه أن ينافس سواه بنوع نسيجه، وليس بما يتلفه في نصه.
مثلاً: ما صلة القربى بين " التغادر " وخيبة ظلال الشجرة ؟
سيقال أن في الغدر نكوص سلبي إلى الخلف، واحتماء بالمتبقي ملاذاً نفسياً، وخلل في الوجود من خلال شاهد طبيعي، يتمثل في ظلال الشجرة خاصية الخصب...في هذا ما هو متداول.. هكذا الحال مع: شجرة تصنع أفقاً، وأسرار المسافة، والصرخة المارقة ...إلخ. إنها احتفالية الوجود المصاب بكائنه الذي يعنينا أمره في الصميم، ولكنه عصي على الضبط، بقدّر ما يكون هذا التوصيف بالطريقة هذه لما يتمثله كوجود.
وفي خاصية الاعتراب، ما تكون الغربة، ما يكون الغريب، والليل والمناخ السديمي ورعشة الكائن تحت وطأة الموجود بلحمه وعظمه، بروحه التي تمثّل الغربة الماضية في عنفها المسمّي لواقعها الحياتي.
8
الشاعر طليق في خياراته، ولكن وراء هذه الطلاقة ما يقيده، حين يجزم بالصور الدالة عليه، وما يبقيه في عراء المقروء، ما يحيله موضوع قارئه، حيث تنتهي مهمته، وتبدأ مهمة القارئ، ودون أن تكون القراءة هذه معلنة نهاية له، إنما ما يدمجه بموضوعه، وما يجعل من موضوعه أفقاً مرآوياً لمكاشفة قوله.
ثمة ما يبقي الشاعر عالقاً في فخ الوجود، في اللامهرَب له منه، كما هو المثار في " نافذة أخيرة على أنقاض الليل":
من عتبات هذا البعيد،
سألتفت إلى الخلف كما يسلك الناس الأمر ذاته،
فأجدني
أطارد ظلي
أشعل سيكارة
وأتفرس في نهر الذكريات الذي يجري
بألم....! ص 124 .
أين بدأ الشاعر وأين انتهى؟ لا بدء مصرَّح به، ولا مختتم منوَّه إليه. إنها فسحاته المدشنة في وجود ينزّله في مساراته الشعرية، واصفاً وموصوفاً، ظاهراً وباطناً، قريباً وبعيداً، كما يمكن للشعر أن يكون فاعلاً.
أتراه حطاماً هذا الوجود، لتكون نافذته زاوية نظره الشعرية؟ أتراه رثاء ممضاً لروحه لما كان حتى حاضر لحظته المعبَّر عنها بلغة الشعر؟ أتراه حنيناً لا يُساوَم عليه إلى آت محرر من هذا الليل بإطباقه على الوجود، والدافع به إلى البرّية إلى إشعار آخر، ريثما " تبّلغه " حمامة ما من بعيد بعيد، الخطر قد انزاح جانباً، ويمكن دخول المدينة التي تطارده أو يكون طريدها، دون تفتيشه من عسسها أو متربص به ؟
يظهر أن أسئلة كهذه لا ولن تتوقف في سرد مآسيها، والنظر إلى البعيد عبر شرفة تخص شاعرها، يتآسى بما يقول، وتعتمل به نفسه من مشاعر وأحاسيس، من خيبات وانتكاسات، وحرمان من غزالة، يظهر أنها ستشغله ما بقي دهره، غزالة لا تتجسد في وجه أنثوي محدد، كما هو الوجود المحرر من موجود محدد.
وفي هذا المضي في الجهات كافة يتصادى الشعر، ويستمر الشاعر، وهو شغوف بالغزالة ذات الصيت بتاريخها. لماذا الغزالة وليس غزالها؟ ذلك ما يعيدنا إلى المتجذر اشتهاء غريباً في الشعر، كما لو أن الشاعر خالد هنا، يعيش ذبذبات قول جان كوكتو( أعلم أن الشعر ضروري، ولكنني لا أعلم لماذا ).
يعلم الشاعر، ونعلم نحن، أن الغزالة دون غيرها ضرورة حيوية، نفسياً، وضرورة جمالية ذوقياً، وضرورة رمزية لغوياً وفي مقاس شعر عصي على الوصف والتعريف، ولا نعلم لماذا.. لهذا نستمر في المتابعة!
تُرى هل لازال قلب العابر عابراً، أم معبَراً لوجود ألمح إليه حاملُه الشاعرُ، وإن لم يسمّيه باسمه؟
0 تعليقات