البدايةُ من كلِّ شيءٍ:

 تستولي "البداية" علينا، ثمة إغواء يكتنف هذا الحدّ بكثافةٍ، ثمة ما يغرينا في هذه الكلمة: بداية الحبّ، بداية القصيدة، بداية الكتاب، بداية العالم...إلخ. لكن ما أدرانا أنَّ "البدايةَ" هي "البداية": أوّل الشيء وطزاجته وعذريته؟ 

إنَّ البدايةَ لا ترتسم إلا استنادا إلى ما يسبقها من الـ"لا ــ بداية" أو بدايةُ البدايةِ، كما لو أنَّ البدايةَ مشروطةٌ بـ"بداية البداية" أو الـ(لا ــ بداية) أو (الكاوس/الفراغ)([1]) حيث تنبثقُ "البدايةُ" بوصفها حداً؛ لِتُمَفْصِلَ النظامَ عن الكاوس/ الفوضى والهيولى واللاشكل، أي أنّ الأمر يتعلق بالحيازة والامتلاك، حيازة الفضاء وتسويره وإخضاعه للغة والشكل. 

غير أنَّ ذلك لا يشير إلى "الفصل" وإنما إلى التمفصل أي بإبقاء فضاءٍ، جسر، متصل، مَمرٍّ يصل الكاوسَ والنظامَ معاً، من حيث إنّ الكاوس ينفذ إلى داخل النظام ويتغلغل فيه ليمارسَ الإبهام والالتباس. 

إنّ "البداية" هي السبيل إلى ما يتلو كما يمضي أرسطو في تحديدها، هي السبيلُ والممرُّ لألعاب الخارج وتلويث الداخل كأنَّ ما يتلو البدايةَ من مفاجآت يخصُّ اللاـ بداية التي تتموّه بالإبهام الذي يقصف بقوةٍ بنية "الشكل والنظام" لاحقاً.

أيتها البدايةُ التي تخضع لسُلطان السّراب البهي! 

أيتها البداية المحاصرة باللامرئي وطعناته! 

أيتها الشّجرةُ التي تمزّقكِ الرّيحُ الهوجاء...!

 

I

البدايةُ ــ الأنينْ:

في ظِلّها تتجاورُ وردتا الصّمتِ والكلام

الكلمةُ ــ الجرحُ، التي تُوْقِظُ الليلَ من غَطْرستِهِ  

الكدمةُ التي تباغتُ اللغةَ في انعِطَافِهَا صوبَ النُّجوم 

تعبرُ بنا الصَّحراءَ بمجاهيلها، الغابةَ الحجريةَ بأشباحها، الرّيحَ بذئابها 

عندَ حَجرِ "البَداية":

يتفتّحُ ظلُّ الغزالةِ سماءً عميقة... 

 

II

كلما أَشْرَقْتِ في الابتسامةِ  

إِخَالُ أقحواناتِ "البَدايةِ" تنبثقُ للتوّ بهاءً.. 

إيماءةٌ ما، تنفسحُ الصَّحراءُ أكثر، فأكثر...

أيها القمرُ المرتعشُ بين نِهْدَي الليل: ظلّانِ وتتكثّفُ الطّريقُ متاهةً...

يُوْرِقُ الحبُّ بعدَ الغيمةِ الأُوْلى، كشجرةٍ تشاغبُ خَصْرَ السَّماءِ، كموجةٍ شاردةٍ، كذهولِ حَجرٍ في متاهتهِ، كإبهامٍ يَتألَّقُ على حَافةِ مساءٍ، كتيجانِ أَطْلالٍ قَديمةٍ، يورقُ كعَدمٍ يحنُّ إلى العَدم...! 


 III

لايزالُ الليلُ يتناثرُ على كتفيكِ مباغتاً الصَّباح في طراوته

إطلالةٌ آسرةٌ تفاجىءُ الملل، 

وردةٌ تبزغُ على حافةِ المجهول!

ابتسامتُكِ ربيعٌ حنونٌ كضيفٍ عزيزٍ قادم في الطّريق،

عيناكِ بلادٌ بعيدةٌ حيث الشّمسُ الوديعةُ تحضنُ الأرضَ بلهفةٍ.

وأنت تُبادهينَ شجرةَ الورد بلمسةٍ؛

يحطُّ، بالقربِ مِنْكِ، طَائرٌ أليفْ... 


IV

پورتريه:

الستائرُ تغتاظُ عتمةً

بينما ضوءٌ خافتٌ يتمزّقُ على أفاريز النَّافذة 

ابتسامتُكِ شآبيبُ نورٍ تحتفي بها الظّلالُ

حقلُ قمحٍ محاصرٌ بغيومٍ داكنةٍ، تنازعُ الليل والنّهار، هنيهةُ أبدٍ:   

إنَّها رشقةُ برونز تجتاحُ ملامحَكِ حيث الجمالُ الفائقُ بلا ضفاف... 


V

في الطَّريقِ إِلى حَافّةِ الأَلم؛

حَدّثتني عن الشِّعر، وردةٌ ما كادتْ تَشْتعلُ من الرّقةِ:

ألغازٌ، تَنْهيدةٌ مثلُ انحدارةٍ لطيفةٍ... وَحْشَةٌ في العَينين، غربةٌ بشَارعٍ طويلْ... 

تَمرُّ تلكَ الأشجارُ المحفوفةُ برمَادِ الصّمت...

بينما أنقاضُ الّليلِ تتفاقَمُ بصَلافةٍ...!


VI

في الحزن الذي يَرْخِي على رُمُوْشِكِ بجناحيهِ 

تطوّقُ صوتَكِ جراحُ المسَاءات العَمِيْقَةُ 

الذكرياتُ العَطِرةُ مثل طيورٍ وديعةٍ تطفو سطوةً على القلب

في ظلّ الكلمات تستيقظُ تلك القُرَى السَّاهمة هناك بزمنها المتخثّر. 

حزنُكِ حديقةٌ مخدَّدةٌ بأحجار الألم؛ إذ، في ليلِ الكاهنة، يترنّح الأملُ كقنديلٍ ...! 

                               ***

([1]) ــ كاوس باليونانية χάος/khaos): هي الربة الأولية للكون في الأساطير الإغريقية، وهي الربة التي تجسد المكان غير المحدد والمادة التي لا شكل لها والتي سبقت كل خلق وكل خليقة وكل ما هو معروف. وكاوس بالإغريقية القديمة معناها الفراغ والظلام اللذان بلا حدود ويمكن أن يتم ترجمة معنى الكلمة أيضاً بأنها الفراغ العشوائي الأولي للكون أو ما يسمى أيضا السديم الكوني الأولي. و بحسب الأساطير الإغريقية القديمة فإنَّ كاوس هي الربة الأولية التي أتت منها بقية الأرباب الأولية والذين يدعون أيضاً بأرباب الخلق الأولى وهي تدل على كل ما كان موجوداً قبل خلق الكون، وهكذا تكون كاوس هي الكتلة الأولية لهذا الكون المؤلفة من عناصر الطبيعة الأربعة النار والهواء والماء والتراب، والتي تبعثرت وتناثرت بكل الاتجاهات قبل أن تهدأ وتستقر. (نقلاً بتصرف عن ويكبيديا).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية