كيف نحمي كوكبنا في عالم غير متكافئ؟
العدالة العالمية وأزمة التنوع البيولوجي
في ظل التسارع الكبير الذي يشهده العالم من تغيرات بيئية، يعاني التنوع البيولوجي تهديدات متزايدة بسبب الاستغلال المفرط للموارد والنهج غير المتكافئ في إدارة الأزمات البيئية. هذه التحديات تشمل تعقيدات العدالة الاجتماعية، حيث تتحمل المجتمعات الفقيرة العبء الأكبر نتيجة السياسات البيئية غير العادلة.
يناقش كريس أرمسترونغ في كتابه «العدالة العالمية وأزمة التنوع البيولوجي» التحديات المتعلقة بالحفاظ على التنوع البيولوجي وتحقيق العدالة العالمية في آنٍ واحد. يعكس الكتاب العلاقة المعقدة بين السياسات البيئية والعدالة الاجتماعية، مستعرضاً أمثلة وتحليلات حول تأثير السياسات الراهنة ودورها في تفاقم الفجوة بين الشمال والجنوب العالمي.
يفتتح الكتاب بمقدمة توضح أزمة التنوع البيولوجي وتأثيراتها البيئية والاجتماعية على الكوكب. يبرز الكاتب أن السياسات الحالية للحفاظ على التنوع البيولوجي فشلت في التصدي لهذه الأزمة بسبب تركيزها على الحلول قصيرة المدى وتجاهلها لجذور المشكلة. يشير أرمسترونغ إلى أن غالبية تمويل جهود الحفظ تُوجه نحو دول الشمال العالمي، بينما يقع العبء الأكبر على كاهل دول الجنوب العالمي، التي تعاني غالباً ضعف الموارد الاقتصادية والقدرة على تنفيذ السياسات البيئية. هذا التفاوت يُظهر بوضوح كيف تساهم هذه السياسات في تعزيز الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بدلاً من تقليصها.
يقول المؤلف: «نعيش في زمن يشهد دماراً بيئياً هائلاً، حيث يتحمل البشر المسؤولية الأكبر. في السياق الواسع لتاريخ الأرض، يُعدّ أن تتمكن فصيلة واحدة من تقويض الأنظمة البيئية للكوكب كما فعلنا نحن في تحقيق تطور استثنائي. بصراحة، حتى بالنسبة للإنسان العاقل (Homo sapiens)، فإن ذلك تطور ملحوظ. لأكثر من خمسة وتسعين في المئة من تاريخ وجودنا، كنا مجرد نوع آخر من الرئيسيات الكبرى يحاول النجاة على كوكب بري مليء بالتحديات، وفي فترة لا تزيد على غمضة عين (بالمصطلحات التطورية)، استطاعت فصيلتنا أن تغيّر وجه العالم الحي بأكمله. تحولت حياة البشر نفسها أيضاً. انطلقت الثورة الزراعية قبل اثني عشر أو ثلاثة عشر ألف عام، ما أطلق أشكالاً جديدة من عدم المساواة والتسلسل الهرمي في المجتمع البشري، حتى وإن كانت الهياكل الهرمية موجودة منذ عصور ما قبل التاريخ.
كما أدت هذه الثورة إلى زيادة كبيرة في عدد سكان العالم. وشهدت التطورات اللاحقة، بما في ذلك الثورة الصناعية وظهور الشركات المساهمة، دفع عجلة الرأسمالية العالمية، وهي حركة عابرة للقارات شكلت حياة البشر وانتزعت وسائل العيش من أيدي الناس في جميع أنحاء الكوكب. تأثير هذه التطورات في العالم غير البشري كان، إن وجد، أكثر دراماتيكية».
ويضيف: «لاحقاً، أدت محاولات ربط البحار لتشكيل نظام عالمي واحد بفضل كولومبوس وفاسكو دا غاما، بالإضافة إلى العمال المجهولين الذين شيدوا في النهاية قناة بنما وقناة السويس، إلى اختلاط الأنواع، ما أحدث تحولاً جذرياً في النظم البيئية البحرية. منذ النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده، أصبح تأثير البشر في العالم الحي أكثر دراماتيكية. ما يسميه العلماء «التسارع الكبير» شهد زيادات غير مسبوقة في أعداد السكان، والناتج المحلي الإجمالي للدول، واستهلاك الطاقة، والنقل الجماعي للبضائع. في الوقت نفسه، تسبب ذلك في حدوث تغييرات واسعة النطاق في «الاتجاهات العالمية لأنظمة الأرض» شملت تدهور الأراضي، التصحر، إزالة الغابات المدارية، وتحميض المحيطات. أدت هذه التغيرات إلى أزمة كوكبية متعددة الأبعاد، أحد أبرز مظاهرها الانخفاض السريع في معدل التنوع البيولوجي. بالنسبة لبعض المعلقين، فإن هذه التغيرات الدراماتيكية تثير شبح «عالم الأنثروبوسين». كان مفهوم الأنثروبوسين قد نشأ في الأصل ضمن علم الجيولوجيا، حيث قيل إن تأثير البشرية في الكوكب كان دائماً مهماً، ولكن بحلول منتصف القرن العشرين، اتضح أنه سيظهر بقوة في السجل الجيولوجي للأرض».
خلق مشكلات بيئية جديدة
يسلط الكاتب الضوء على الممارسات غير العادلة التي ارتبطت بسياسات الحفظ، مشيراً إلى أن بعض هذه السياسات، بدلاً من أن تحقق أهدافها النبيلة، ساهمت في خلق مشكلات جديدة مثل الفقر، الإقصاء الاجتماعي، وحتى العنف.
ويشير أرمسترونغ إلى أن السكان المحليين في دول الجنوب غالباً ما يضطرون إلى تحمل تكاليف بيئية واقتصادية كبيرة نتيجة لهذه السياسات، ما يؤدي إلى فقدان مصادر رزقهم وتفاقم أوضاعهم المعيشية. ويقدم الكتاب أمثلة على المجتمعات التي تم تهجيرها قسراً بسبب إنشاء محميات طبيعية، وهو ما يسلط الضوء على الوجه المظلم لبعض السياسات البيئية.
في الفصول الأولى، يناقش أرمسترونغ مفهوم العدالة البيئية من خلال ربطه بقضايا حقوق الإنسان وحماية الحيوانات. يوضح أن السياسات البيئية لا يمكن أن تكون فعالة ومستدامة إذا تجاهلت حقوق المجتمعات المحلية واحتياجاتها. يركز الكاتب على أهمية إيجاد توازن بين الأهداف البيئية وحقوق السكان، مشيراً إلى أن تجاهل هذا التوازن يؤدي إلى سياسات قصيرة النظر وغير عادلة.
ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى تحليل النظريات التقليدية المتعلقة بحماية التنوع البيولوجي، حيث يقدم الكاتب نقداً للنهج القائم على حماية الأنواع المهددة دون النظر إلى التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لهذه السياسات. يدعو أرمسترونغ إلى تطوير نماذج جديدة تكون أكثر شمولية وتركز على العدالة كجزء أساسي من الحلول البيئية. كما يتناول في فصول لاحقة قضايا تقاسم الأعباء وتكاليف الفرص، مشيراً إلى أن الدول الغنية تستفيد من الجهود البيئية التي تتحمل تكاليفها الدول الفقيرة، ما يعكس غياب الإنصاف في توزيع الأعباء والموارد.
تعزيز العدالة والاستدامة
من المواضيع المثيرة التي يناقشها الكتاب هو مفهوم «تعويض التنوع البيولوجي»، الذي يهدف إلى موازنة خسائر التنوع البيولوجي عبر استثمارات في مناطق أخرى، ورغم أن هذا المفهوم يبدو واعداً من الناحية النظرية، إلا أن الكاتب يبرز مخاطره العملية، حيث يمكن أن تتحول هذه الآليات إلى أدوات لتعزيز مصالح الشركات الكبرى على حساب المجتمعات المحلية. يشير أرمسترونغ إلى أن نجاح هذه الآليات يعتمد على تنفيذها بطريقة تضمن الشفافية والعدالة.
كما يتناول الكتاب مبادرة «نصف الأرض»، التي تدعو إلى تخصيص نصف مساحة الكوكب للحفاظ على الطبيعة. يقدم أرمسترونغ تحليلاً نقدياً لهذه الفكرة، موضحاً أنها رغم طموحها البيئي، قد تؤدي إلى نزوح قسري للسكان المحليين وتفاقم الفقر في المناطق المستهدفة، ويدعو إلى بدائل أكثر شمولية تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لهذه السياسات.
في خاتمة الكتاب، يبرز أرمسترونغ أن أزمة التنوع البيولوجي تتطلب استجابات متوازنة تستند إلى العدالة والاستدامة، مؤكداً أن التصدي لهذه الأزمة يجب أن يتضمن إعادة تصميم السياسات البيئية لتكون أكثر شمولية وإنصافاً، مع تعزيز التعاون الدولي لتوزيع الأعباء والموارد بشكل عادل. يقدم الكاتب رؤية مستقبلية للتعامل مع هذه القضايا، مستنداً إلى تحليلاته العميقة والنهج المقترح لخلق توازن بين حماية البيئة وحقوق الإنسان.
كريس أرمسترونغ: أستاذ جامعي متخصص في النظرية السياسية، وحائز جائزة لينتون كالدويل لعام 2023 من الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية. يركز في أعماله على قضايا تقاطع العدالة العالمية والبيئة. تشمل اهتماماته أزمة التنوع البيولوجي، سياسات المحيطات، أخلاقيات الحيوانات، وحقوق الموارد الطبيعية والأراضي. له 6 كتب، وينشر مقالاته في صحف بريطانية بارزة.
0 تعليقات