يعد كتاب "سياسات حوض النيل: من التنسيق إلى التعاون في السلام" دراسة معمقة للتفاعلات القانونية والسياسية والثقافية التي تحكم إدارة المياه في حوض النيل، حيث يركز بشكل أساسي على تأثير سد النهضة الإثيوبي على العلاقات بين الدول المشاطئة، خاصة إثيوبيا ومصر والسودان. يحرر الكتاب ثلاثة أكاديميين بارزين هم ستيفن روتش، وديريك هدسون، وكاليب ديميرو، ويقدمون تحليلاً شاملاً للديناميكيات التي تحكم التعاون والنزاع حول موارد المياه في المنطقة، مع اقتراح حلول عملية لتعزيز التنسيق بين الدول المشاطئة.

يبرز الكتاب التحديات الوطنية والإقليمية التي تعرقل تحقيق شراكة فعالة بين دول الحوض، حيث يستعرض النزعات القومية والهيمنة المائية، ويوضح كيف أصبحت مشاريع البنية التحتية الكبرى مثل سد النهضة وسيلة لتعزيز الشرعية السياسية وكسب التأييد الشعبي، خاصة في إثيوبيا التي ترى في السد مشروعاً قومياً يعزز مكانتها الإقليمية، بينما تعتبره مصر تهديداً مباشراً لأمنها المائي، ما دفعها إلى تبني استراتيجيات دبلوماسية ودفاعية متعددة لحماية حصتها من مياه النيل. السودان، بدوره، يتبنى موقفاً أكثر توازناً، إذ يسعى للاستفادة من المشروع في توليد الكهرباء وتنظيم تدفقات المياه، لكنه يواجه تعقيدات سياسية داخلية تجعله في وضع حساس بين مصر وإثيوبيا.

رؤية جديدة تتجاوز الصراع 

يطرح الكتاب رؤية جديدة تتجاوز النظرة التقليدية للصراع المائي بين الدول، حيث يقترح حلولاً تقوم على التنسيق الثنائي والمتعدد الأطراف كبديل عملي للدبلوماسية المائية على المدى القصير، ويركز على مفهوم التعاون التدريجي، حيث يمكن للدول تبني حلول وسطى تضمن التفاهم المتبادل قبل الانتقال إلى اتفاقيات أكثر شمولاً. يشدد الكتاب على أن الاتفاقيات المائية الناجحة يجب أن تأخذ في الاعتبار المصالح الوطنية لكل دولة، دون إهمال الحاجة إلى شراكات إقليمية تضمن الاستقرار المستدام في المنطقة. كما يتناول الجوانب التقنية لسد النهضة، بما في ذلك قدرته التخزينية وتأثيراته المحتملة على تدفقات المياه في النهر، إضافة إلى التأثيرات البيئية على المدى البعيد، محذراً من ضرورة وجود آليات واضحة لمراقبة استخدام المياه ومنع الاستغلال غير المتوازن للموارد. ومن القضايا المهمة التي يعالجها الكتاب، مسألة دور دول المنبع الأخرى مثل أوغندا، وكينيا، ورواندا، التي رغم عدم تأثرها المباشر بالسد كما هو الحال بالنسبة لمصر والسودان، إلا أن مصالحها تؤثر في موازين القوى داخل الحوض.

كما يولي الكتاب اهتماماً بالدور الذي تلعبه القوى الدولية في هذا النزاع، مشيراً إلى أن التدخلات الخارجية، رغم أنها قد تبدو وسيلة لحل النزاعات، إلا أنها في كثير من الأحيان تزيد الأمور تعقيداً. يستعرض المفاوضات التي جرت في واشنطن عام 2020 بين مصر وإثيوبيا والسودان، موضحاً كيف أن المصالح المتباينة للدول الكبرى قد تؤدي إلى تفاقم الخلافات بدلاً من حلها، كما يناقش الإطار القانوني لاتفاقيات المياه، ويطرح تساؤلات حول مدى فعاليتها في منع الأزمات المستقبلية، مؤكداً على الحاجة إلى تطوير أطر قانونية أكثر عدالة لجميع الدول المعنية.

التأثيرات السياسية والتقنية لسد النهضة 

ينقسم الكتاب إلى جزأين رئيسيين، يتناول الجزء الأول التأثيرات السياسية والتقنية لسد النهضة، حيث يسلط الضوء على التعقيدات التي تواجه إدارة المشروع وتأثيره على العلاقات بين دول الحوض. يقدم ستيفن روتش في المقدمة تحليلاً معمقاً للإطار السياسي الذي يحكم النزاعات المائية، موضحاً أن هذه القضية لا تقتصر على توزيع الموارد المائية فحسب، بل تمتد إلى صراعات تتعلق بالهيمنة الإقليمية، والشرعية السياسية، والتنافس على التنمية، ويدعو إلى تبني استراتيجيات مرنة للتنسيق والتعاون.

ينتقل الكتاب إلى تحليل دور سد النهضة في السياسة الداخلية الإثيوبية، حيث يوضح كاليب ديميرو كيف أصبح المشروع رمزاً قوميّاً وأداة لتعزيز سلطة الحكومة، ما جعله قضية حساسة لا يمكن التنازل عنها بسهولة في المفاوضات مع مصر والسودان. أما كيبرياب جيبرميكائيل وتيروسيو أسيفا فيناقشان الجوانب التقنية للسد، حيث يستعرضان أثره على تدفقات النيل وإمكانية تنسيق تشغيله بطريقة تقلل من الأضرار على دول المصب، مع الإشارة إلى أن غياب الثقة السياسية بين الدول المعنية يشكل العائق الأكبر أمام تحقيق تعاون فعال.

كما يركز الكتاب على التحديات التي تواجه السياسة المائية المصرية، حيث يستعرض حمدي حسن كيف ترى مصر السد تهديداً لأمنها المائي، ما دفعها إلى تبني استراتيجيات دبلوماسية وقانونية لمواجهته، إضافة إلى البحث عن بدائل مثل مشاريع تحلية المياه وتطوير نظم الري.

تحليل العوامل الإقليمية والدولية 

يتوسع الكتاب في الجزء الثاني في تحليل العوامل الإقليمية والدولية، حيث يناقش دور دول المنبع الأخرى التي تمتلك مصالحها الخاصة في هذا النزاع. يسلط كاليب ديميرو وديريك هدسون الضوء على كيفية تفاعل هذه الدول مع المشهد المائي الإقليمي، حيث تسعى بعضها إلى تعزيز استقلالها المائي، بينما تفضل أخرى التعاون مع القوى المهيمنة لضمان حصتها المستقبلية، ويشير الكتاب إلى أن حل النزاع يتطلب فهماً أوسع لدور هذه الدول غير المحورية.

كما يتناول ستيفن روتش في فصل مستقل التدخلات الدولية، وخاصة دور الولايات المتحدة في الوساطة خلال مفاوضات واشنطن، ويبين كيف أن المصالح الجيوسياسية للقوى الكبرى قد تزيد الأمور تعقيداً بدلاً من حلها. يتطرق الكتاب كذلك إلى الأطر القانونية الحاكمة لمياه النيل، حيث تستعرض إدنا أودوبونغ القضايا القانونية الناشئة، مشيرة إلى أن غياب إطار قانوني شامل ومتوافق عليه بين جميع الأطراف يعقد النزاع المائي.

يختتم الكتاب باستشراف مستقبل التعاون في حوض النيل بحلول عام 2038، حيث يناقش هاري فيرهويفن وراوية توفيق إمكانية تحقيق تكامل إقليمي قائم على الترابط بين المياه والطاقة والغذاء، ويبينان أن تجاوز النزاع الحالي يتطلب حلولاً مبتكرة تعتمد على الاستثمارات المشتركة في الطاقة الكهرومائية والزراعة المستدامة، بدلاً من التركيز فقط على تقاسم المياه. يشدد الكتاب على أن مستقبل الاستقرار في المنطقة يعتمد على التحول من الصراع إلى التعاون، وهو أمر لن يكون ممكناً إلا من خلال بناء الثقة بين الدول وتبني سياسات مرنة تراعي المصالح المشتركة للجميع.

يعد هذا الكتاب الصادر حديثاً عن دار إدوارد إلغار للنشر باللغة الإنجليزية ضمن 192 صفحة، مرجعاً مهماً لفهم التعقيدات السياسية والقانونية التي تحكم إدارة المياه في حوض النيل، وهو إضافة قيمة للأدبيات التي تتناول النزاعات الإقليمية والتعاون المائي، حيث يركز على الحلول العملية والتوجهات المستقبلية بدلاً من الاقتصار على عرض المشكلة، ما يجعله مصدراً أساسياً للباحثين وصناع القرار المهتمين بتعزيز التعاون الإقليمي حول المياه.

عن المؤلفين:

ستيفن سي. روتش، أستاذ العلاقات الدولية في كلية الدراسات العالمية متعددة التخصصات بجامعة جنوب فلوريدا، وديريك ك. هدسون أستاذ العلاقات الدولية في قسم العلوم الإنسانية والفنون والعلوم الاجتماعية بكلية كولورادو للمناجم، وكاليب ديميرو أستاذ مساعد في العلوم السياسية في قسم العلوم السياسية والعدالة الجنائية بجامعة غرب تكساس أيه آند إم في الولايات المتحدة الأمريكية.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية