في روايته " آرام سليل الأوجاع المكابرة-2006 " كان الروائي الكردي والناقد السوري هيثم حسين " 1978-..." ينظر إلى العالم خارج،اً من خلف نافذة مفتوحة، بينما في " رهائن الخطيئة- 2009 " فمن نافذة تحتل مساحة أوسع، لرؤية العالم أكثر، وفي " إبرة الرعب-2013 " يجري النظر إلى العالم من على شرفة تسهّل عملية الرؤية إلى ما وراء الأفق المنظور، وما هو خفي فيه، أما في " عشبة ضارة في الفردوس -2017 " فالشرفة هنا تحيط بكلّية بيته، وهو يتعقب ما يتحرك أمام ناظريه، ويلتقط المؤثرات أكثر مما سبق، أما في روايته الأحدث ظهوراً " كريستال أفريقي- 2024 "، فثمة النظر من على سطح مكشوف، وبقاعدة واسعة وصلبة، والتحكم بجهات الرؤية، وربطها بخزّين ما كان أن رآه سابقاً.
تُرى، لماذا هذا الرهان على الرؤية؟ وإلى ماذا يؤدي بنا ؟
لنذكّر" أقول: لنذكّر، استعانة بماض ما ! "، أن أول جملة في ملحمة جلجامش كانت " هو الذي رأى ". الرؤية وإن كانت إسهاماً وظيفياً بصرياً" عينياً " طبعاً، لكنها تسمّي البصيرة، الذاكرة التي تقرأ مسطور العين البصري وترتيبه دلالياً.
في العودة إلى الذاكرة، وهي ارتكاز عليها بالمقابل، ربما يسْهل ويجاز القول على أننا ثمار ذاكرتنا، طالما أننا نعيشها، نحملها وتحملنا، دونها" تصوروا ماذا يتبقى منا وفينا !" التاريخ عامل إقحاميّ، وغير مرغوب فيه أحياناً، وأكثر من ذلك في أحياناً أخرى، حين يتمادى في مضايقة الذاكرة، ويحوزها، وليس أن يستعين بها، معترفاً بمنبعية المُؤتى منها، وكأنها ليست بذات قيمة، وهي متنحاة جانباً، أو في اللامسمى تكون، ثمة أسباب كثيرة لذلك، حيث الذاكرة لسان حال من يُرى بلحمه ودمه، ويُسمَع بصوته، ويعرَف بمكان وزمانه، باسمه ولقبه، وعنوانه وعلامات فارقة تميّزه عن غيره لغة ومكانة، ثقافة وهوية بالمقابل. التاريخ يعرَف به خارجاً عندما يخاطب الذاكرة أو يتوعده ويتهدده دون استئذان: خذي علماً، عندما أسمى لا يعود لك أي اسم أو صوت، أو أثر، أنا من يمثلك، وعلى طريقتي .
مهمشو التاريخ، أو المنبوذون في " ضواحيه الصفائحية، ومن يعيشون خارج لغاتهم وصورهم المجاورة لأسمائهم وأصواتهم التي تميزهم، يتقدمون بذاكرتهم في الحالة هذه.
أمم الذاكرة هي التي تدرك، وكلها معاناة ومكابدة، حيث إن ما يقدَّم تاريخاً لها، وأن لها اسماً فيها، ودون معرفتها في حقيقتها، يستهدف وجودها نفياً أو إنكاراً لهذا الوجود .
لنكون هناك إزاء سؤال لا بد منه أدبياً: كيف يمكن للرواية أن تأخذ موقعها بينهما؟ من جهة كاتبها، وهو يراهن على الذاكرة، ليس من نباهة في القول، إنما بداهة في التعبير المباشر، وهو أنه سيتقدم بلوح " الذاكرة " المحفوظ في كلية جسده، تعبيراً عن بقاء مطارَد!
ولهذا، فإنني عندما عنونت هذا المقال / البحث بـ" ذاكرة الرواية " كان التوجه إلى الداخل، إلى الذاكرة المضغوطة، في مواجهة التاريخ الضاغط الذي يمارَس، ولا يدخر جهداً، من قبل القيمين عليه، وعلى طريقيهم، أن ما يجري تمثلّه معرفياً يشمل الذاكرة كذلك.
هيثم حسين، في مجمل كتاباته الراوئية خصوصاً، نصير الذاكرة، كرافد رئيس لثقافته الغدية، ومؤثر محفّز لخياله، ليس كرهاً في التاريخ، وتعظيماً للذاكرة، وإنما لأن الذي توفّر له الذاكرة مكاناً وزماناً يسمّيانه، وينعطفان عليه. إن التاريخ مفهوم حلباتي في احتوائه لما كان، وكأنه ما سيكون في بنية خطابه، بينما الذاكرة فمفهوم عتباتي يُسمي بيته، ويطل على الآتي، وفي العلاقة البينية في مقدور كاتب النص الروائي أن ينسج شبكة علاقاته بالطريقة التي تطوّع التاريخ لسيرورة مادته، وتهذب الذاكرة لصيرورة مادته .
وما أفصح عنه في " كريستال أفريقي " " 1 " هو في استثمار جهده الروائي، ومخزونه الثقافي، إلى جانب حمولة ذاكرته مما لم يُفصَح عنه، كما يجب، لتحقيق وع من التوازن التفاهمي بين الاثنين، وفي تجربة روائية أحسبها جديدة، في مساحاتها الجغرافية ذات التقاطعات في الزمان والمكان، وهي تشمل قارات ثلاث، وفي جهة أفريقية تشمل، بدورها أكثر من بلد، وهي بأوجه العنف الدائرة فيها، حيث تتنوع الأصوات: عربية، أفريقية، بلغاتها ولهجاتها، وكردية، ومن موقع الكاتب السارد، وإليه تُعهَد أصوات الآخرين، من خلاله غالباً، وربما هي تجربة غير معهودة، في الرواية العربية، على أكثر من صعيد، بنبرة مهجّنة بما هو هيتشكوكي، تعبيراً عن محتوى الرواية وعالم أشخاصها، والسارد الرئيس الذي يتكلم وينقل كلمات الآخرين باسمه، دون أن يحدد اسمه، إنما من يكون " كردياً "، وبدءاً من العنوان نفسه، والذي يسمّي ذلك الزجاج اللامع والنقي بصفائه ورنينه، وما هو في متن، بوصفه مخدراً مدمراً وتداخل الدلالات في المتن.
عن الرواية وذاكرتها
كل رواية تقوم على نسبة إسناد معينة من الذاكرة. إن ما نكتبه يردُنا من الذاكرة، ولكن هذه قد تكون موصولة بما هو تاريخي. هنا. نسمع صوت جرس إنذار: رواية الذاكرة لا تخفي قيامها بتصفية حساب لها قِدمها التاريخ، ثمة سَدَاد دين متراكم على التاريخ إيفاءه، ولهذا، فإن السارد الماسك بزمام بأمور الدائر كلاماً في نطاقه الحواري، وضمن مشاهد ثابتة ومتنقلة، لا يغفل عن خطورة دوره، وما يمكن للتاريخ القائم بسطوته ومحتواه الرمزي قوة، أن يسحب البساط من تحت رجْليه، وإفشاله في أداء مهمته سارداً لم تجتز رواته مخاضه بنجاح.
يتجدد طرح السؤال: هل للرواية ذاكرة، كما لو أنها من جنسها؟ ذلك ما لا تقبله الرواية عينها، بالطريقة الميكانيكية هذه. ذاكرة الرواية تحال على من يكتبها، وموقعه من الخطاب، من خلال طريقة الكتاب، أي خطابه الرواية ونوع ضميره.
مبدئياً، ليس من شيء يقال، أو يشار إليه، إلا وللذاكرة في مبناه ومعناه نصيب معلوم . والروائي لا يستدعي الذاكرة يمقياس رغبته، إنما ثمة ما يقال في العلاقة، في كيفية انبنائها بينهما. الرواية تلبي رغبة كاتبها، بطريقة ما، في اللحظة التي يشعر أن ثمة ماضياً يتربص به، ويوتره من الداخل، طالباً إيجاد مخرج، تجاوباً مع وطأة سريان فعل جار، له حظوة تاريخ خارجاً. يلعب التوق دوره في ترطيب الذاكرة، ودخولها على الخط، في بعض الأحيان ليس كما هو متوخى منها، إنها ليست محرَّكة آلياً. إذ ( على النقيض من التاريخ، فإن الذاكرة عاطفية قبل كل شيء، وهو ما يجعلها في العادة غير معنية كثيراً باتخاذ أي مسافة نقدية من المعالجة التي تحتفظ بها للماضي.
و:من أجل الحصول على القبول وأداء الوظيفة المخصصة لها، تقوم الذاكرة بتدمير ماضيها في كل مرة تقوم فيها بمراجعة نفسها.) " 2 "
إنه التحدي لمقدرة الكاتب على ضبط نفسه، حيث الذاكرة وإن كانت تخص حاملها، ولكنه هو نفسه محمولها، وما في ذلك من يقظة في حساب التعامل، لوجود ما هو غامض، ما يتسرب إلى الخارج، جرّاء تدفق معلومات، يخالطها ما يبلبل عالم الكتابة هنا .
من هنا تقدّم الرواية خاصة، والأدب عموماً معلومات وفيرة عن تشابكات ما يخرج باسم الأدب تخيلياً وما يبقى في عداد التاريخ، والأخطر في هذا المنحى، حين ينسى الكاتب أن ما يأتي على ذكره استلافاً من ذاكرته، وتدشين علاقة معينة مع ما هو تاريخي، يتولى السرد في الرواية هضمه وطرحه في نصه، بما يصدم كاتبه، حيث يكون لظل ما هو جماعي بصمة فيه. نعم ( الأدب والذاكرة يرتبطان ببعضهما بعضاً بشكل جيد. يختلطان بالتاريخ دون احترام قواعده بالكامل. إن هذه الحرية ضرورية لإعادة اكتشاف المسارات المدمرة للذاكرة الجماعية.) " 3 "
إنها لَمهمة صعبة يعيشها الكاتب: الروائي بينه وبين نفسه ككائن منتم ٍ إلى تاريخ معلوم باسمه ولقبه وهويته ولغته، ومكانه، بينه وبين نفسه كمتحول محدد إلى كائن في عالم المتخيل الأدبي، ومحك الفن، وما إذا كان قادراً على هضم ما هو جماعي بمفرده دون تعثر.
في " كريستال أفريقي " وهو بعنوانه الغريب بالنسبة للقارىء الذي يعرف الكاتب مكاناً جغرافياً وزماناً تاريخياً، وماالذي دفع به إلى تلك القارة " السوداء " ومن خلال اللون ودلالته وتاريخه العاصفة " أفريقيا "، ثمة لعبة خطرة يقوم بها، ولكنها تستولد متعتها معها.
الروائي عبْر سارده بقدر ما يعيش صراعات مع حاضره، لا يخفي وطأة حسابات الماضي. بالعكيس، يظهر أن الماضي هو الذي يمارس فيه تنميطاً لشخصه من جهة الاسمن الفعلي الذي يميّزه عن غيره، وإن لم يظهِره إلا من خلال جنسية الآخر، بصفته سورياً، أو بريطانياً، كما لو أن إحالة هذه، كافية لجعلها طافياً على سطح الأحداث، حيث أمواج الحوادث في بحر ما كان، وليس ما هو كائن تبرِز عمق الذاكرة المتوترة التي تعرّف به، والتاريخ الذي يظهر للعيان ويضيق عليه الخناق، وما سريان فعل الأحدث في السرد العابر لحدود دولية: براً وجواً وبحراً، إلا الترجمة التي لا يستطيع السارد التحكم في مساراتها طالما أنه يحمل مثل هذه العلامات الدالة على الشخصية، ثمة ما هو قدَري يزج به، من موقع المحكومية، لينطلق من لندن " عاصمة الضباب " إلى متاهات أفريقية " والانسكان بعواصفها الرملية، ومن ثم إلى دول أخرى " مصر " وفي النهاية في جانب غير معزز بكيان مفصح عنه جغرافياً: إقليم كردستان العراق، مأخوذاً بحساسية موقعه، أي ما يكمون عليه، ومن خلال ذلك السرد الذي يستشرف تواريخ قائمة إمبريالية في حدودها وقواها تتقاسمه بعنفها، ومن خلال تتالي أو تسلسل العناوين الفرعية التي تشكل الهندسة المعمارية للرواية، والمترامية الأطراف، مشاهد تتنافس في إبراز هذا العنف.
المنطلق إلى أين؟!
من البداية يشد إليه قارئه، بمكالمة، حيث العنوان الفرعي الأول يكون الداخل الأول في التذكير" قبلتي مالي " تلك الدولة الأفريقية البعيدة والفقيرة، ثم ( تلك المكالمة غيَّرت حياتي..) لاحقاً يتصل به لأن الأمر يتعلق بالنقود وهو ما يثيره . ذلك مهم جداً في تسخين السرد، ومع تقدير المسافة الفاصلة وأي نوع فضول يتخلل الإنباء عما يمكن أن يجري( عمل كبير وخيالي. هكذا أخبرني بعد أن سألته عن ماهيته. وأضاف: أموال ، دولارات، ملايين الدولارات لمسؤولين عراقيين سابقين عالقة في مالي. ص 9 ).تساؤل السارد مشروع عن مغزى الجاري( ماالذي يفعله هذا المسؤول العراقي السابق في مالي. ص 10) . هناك تحريك للدوافع والأهواء النفسية، لعبة ساخنة في الداخل بين التقديرات العقلية والمؤثرات النفسية، جهة المال ووعوده، ليتصل في الحال بالمترجم العراقي هناك مسابقاً الزمن وثوانيه، لينسّب نفسه إلى الوضعية التي تقارنه بآخرين جهة العلاقة مع المال( لأن بريق المال كان من الحدة واللمعان بمكان أن منع الرؤية وأعشى البصر وأضاع التبصر. ص 12 ) .
يتكلم سارده في الوقت الذي يوجّه قارئه إلى ما هو تاريخي قائم ومقروء، وإلى ما هو واقعي، على صعيد المال ونفوذه السحري في النفوس، وفتنته المألوفة في استدراج النفوس إليها، هكذا تسمح ذاكرته الفردية وبمرجعيتها الجماعية على قول شهادتها.
طي عنوان " مستودع بارود " يباشر السرد لعبته في التصعيد بتسخين الحدث . يسحبه موج مشهود له بقوة الضغط إلى ما كان، والصحيح ، هو أن هذا الموج يمارس توصيفاً له موقعاً واعتباراً من خلال ما كان، والصحيح ما هو عليه كتاريخ ملموس( يدهشني عمل الذاكرة بقدر ما يحيّرني. لدي الكثير لأنبش في خبايا ذاكرتي المتخمة بذكريات تفاجئني بحضورها الغريب وغير المترابط، أو غير المبرر، تقودني من جهة أخرى، ومن شخص لآخر، كأنها مستودع بارود ينتظر من يحطم بابه ليخرج مواده المتفجرة ويدفعها لعالم الواقع كي تفعل فعلها فيه..)، هذا الإجراء يصعد به في توتراته عن حقيقة هذا الانشغال ورمزيته ناحية صلته بالذكريات، ليجد نفسه مأخوذاً بما كان ( الماضي يفرض نفسه على حاضري، يقطع سلسلة الأفكار والخطوات يدفعني للتوقف والتفكير ملياً قبل الإقدام على أية خطوة..) وفي تجاذبات الحالة المكثفة نفسياً( استحضرت ذكريات أفريقيا التي كانت مسرحاً لأهم مراحل حياتي، حيث دفنت هناك قطعة من روحي بجانب ميريت، وفقدت فيها أشياء كثيرة لم أستطع تعويضها. ص 15 ) .
ما أثير حتى الآن بلغة السرد المعتمد من قبل الروائي نفسه، يجلو أموراً كثيراً: قبل كل شيء أن الرواية في عمرها الزمني منتهية، لأن الروائي الرئيس وهو السارد الموثوق لدى كاتبه يدرج نص الرواية فيما كان، وما يقوم بسرد لا يتماشى مع الجاري، بما أن الذي يدفع به إلى الإفصاح عن واقعة يشهدها الواقع في تلك الأمداء الجغرافية، أصبح في عداد ما كان. ولكنه يشكل شاهداً على حقيقة، تضم إليها حيوات تخص أشخاصاً يمثّلون وقائع، قيماً، توضعات اجتماعية وسياسية، ترسيمات لعلاقات وقواها الحية وهي في تبايناتها.
في متن هذا الحدث الذي يحيل إليه سارده، ثمة ما هو حكائي، ولو أنه موصول بمتكلم معروف تقديرياً، ثمة لعبة مركبة، لا ينتبه إليه السارد نفسه، تعبيراً عن وجود عجز، لا بد أن ليس له من يد فيه، عجز يرتبط بقوة لا قبل له بها. فما أشار به إلى حيرته جهة الذاكرة، وكيفية تأثيرها فيه، والدفع به إلى التذكير بمستودع البارود، كان كافياً ليعلم القارىء، وبسهولة، أن السارد المحيل على الروائي المستنطق له، محكوم بعلاقات أخرى تعنيه، جهة من يتحدث عنهم، أو ما يُسميه في السياق، جهة تفاصيل عن حيثيات الحالة النفسية. عملياً هي عبارة عن فائض لا لزوم له، لأننا نجد في مجرد التعبير عن وطأة الذاكرة على السارد، والتذكير بهول مستودع البارود، أن ثمة ما لا يمكن لا السارد ولا كثيرين قادرين على ضبط فعله، ذلك فعل قوى متسيدة. غير أن وراء هذا الفائض المعلوماتي" الشرحي " ومفهوم " اقتصاد الكفاية " القائم، هناك اقتصاد الأم جهة الانجراح الحاصل. فالسارود مصاب في نفسه، وهو ما يسمح له أن يعبّر عن هذا الألم كما لو أنه كان مضطراً، وليعرّف بحقيقة الأمر، وتلك تلك علاقة انقسامية: بين المُكتفى به فنياً، ومتعدية قهراً (إن بطل "روايات الذاكرة" - كما هو الحال على نطاق أوسع في الكتابات المعاصرة عن الواقع - لا يكون نموذجيًا في كثير من الأحيان منذ البداية، ولكنه يصبح كذلك في نهاية رحلته.) " 4 ". هوذا السارد الرئيس ، أعني به بطل من أبطال " روايات الذاكرة " حيث يعود بقارئه إلى ما كان، وعندما نكمل روايته يتحقق مثل هذا النموذج الفني، النموذج الذي يجتهد في حبْكه كاتب الرواية نفسه .
المأخوذ بالذاكرة تنسيباً فنياً، وعملاً مؤسّساً لمعمار الرواية، هو نفسه ضليع في معرفة تداعيات وقائعها، بما أنه حاملها، ويجد أن حقيقته الشخصية التي يريد إظهار لقارىء مجهول، لم يتعاقد معه طبعاً، لهذا الغرض، وإلا لكنا إزاء معلومات صحافية، ثمة دخول في غابة الذاكرة، وهي ليست أي ذاكرة يُستلَف منها ما يريده المعني بها، إنما هي نفسها ليست محايدة بقواها المختلفة، بقدر ما تظهِر وراء الخارج من نطاق الصورة الداخلية للسارد، من خلال مسيرة الأحداث مجتمعة، وطريقة نقله. مثلاً، ما أن يشار إلى مستودع البارود، وهي تسمية سياسية وتاريخية معبّرة عن هول الجاري على أرض الواقع، من حروب ونزاعات دموية وتبعات مروعة، حتى يكون المتوقع ماثلاً للعيان، سوى أن مضيّ السارد في توصيف فعل المستودع البارودي ينعطف على مصاب داخلي يعانيه ولا برء له منه هنا.
هناك من يشاركه في خزّين ذاكرته الكارثي، وميديت، زميلته المشار إليها، والمتأثر بفجيعتها،، نموذج حي آخر، هي نفسها ليست بريطانية، إنما تحمل جنسيتها، ومن أصول أفريقية( ولدت في لندن، جسدت التقاء العالمين في شخص واحد. عملت معي في القناة نفسها على تصوير وإنتاج الأفلام الوثائقية والتقارير الإخبارية . ص 16 )، وهي نظيرته في الرغبة في وضع كتاب عن بلدها، حيث لم يتحقق ذلك.
هذه المشاركة إشعار بعنف الدائر واقعاً، ووطأة تاريخ تسيّده سياسات قوى إمبريالية والداخلين في لعبتها وتسيير أمورها . وحيث إن جملة المشاهد البهيجة في رؤية أماكن ومواقع أفريقية ولقاء أشخاص من جنسيات مختلفة، من مالي إلى مصر، وحتى كردستان العراق، ورجوعاً إلى منطلق البحث " لندن " لم تسعف في مداواة ذاكرته، وإزاحة ما هو كابوسي عن روحه، والإشعار بأن تاريخاً مختلفاً بمحتواه ينتظره عن قرب.
ما يقوله السارد، وكم يدلي بشهادته، وهو مسكون بجرائم تاريخ قائم، والذاكرة تمكّنه من تعرية هذا التاريخ( كناج ٍ من كوارث الشرق، ومجازره، وكشاهد على حروب ومعارك، راح ضحيتها الكثيرون، كنت أستقوي بمشاهد فظيعة من الذاكرة، كي أجابه فظاعات الواقع.. لكن أنّى للذاكرة أن تنافس الواقع أو تتصدى لاجتياحه وهول صدماته . ص17 ).
هذا التذكير بمفردات من خانة العنف الدموي: مجازر، حروب، معارك، فظائع، هول، صدمات.. وهي في كثرتها النوعية، إشهار بما عايشه السارد إلى جانب آخرين، ليكون موقع مستودع البارود برعبه مقيماً في بنية الذاكرة وتنشيط قواها.
ذلك ما يمكن تبينّه في سياق الأحداث حين يصبح في أفريقيا، والبداية في مدغشقر، حسب اختيار صديق السارد ( لأنها جزيرة تنتمي لأكثر من عالم.. ما كنت أعرفه عن مدغشقر أنها جزيرة مثيرة لأطماع الغزاة تاريخياً. ص 21 )، وفي شخص صديقه ألن الإنكليزي تناقض( كان متخبطاً في واقعه ومتأثراً بتدينه السابق، يؤمن بصورة النبي عيسى التي تهديه بهيئة الأفريقي.. ص 22 ) .
كلاهما يعيش نهبَ ماض يستمر في الحاضر، مع فارق أن ماضي السارد ضحية ماضي الآخر في أصوله الاستعمارية، وأنه مسكون بخيلاء أولئك الذين بثوا داخله أفكاراً عن " هداية الضالين والبدائيين والوثنيين على خلفية من دعاية الاستعمارية، وفي شخص صديقهما يظهِر مركَّباً لا يهدأ في تضاد مكوّنيْه: اهتمامه بعمله وهو في عالم أفريقي لم يدخر أسلافه جهداً في استباحته على الصعد كافة، وافتتانه بما هو ديني مسيحي، ومغزى ذلك وهو فاعل في بنيته النفسية، في النظر إلى الجاري أمام عينيه.
السارد لا يستعين بخياله، إلا ليخضع ما هو تاريخي، وهو موجود في عبارات أو صور تفيه متخيَّله حقه من الحياة المأمولة فنياً.
السارد هنا يقيم علاقة مباشرة مع ذاكرته، وهي تقدّم له ما يعينه في بناء نصه، وما يكون عوناً للفني في بلورة شخصيته اللاسوية، على وقْع تاريخ لا زال يشهد بسطوته وتنامي أهواله، وعلاقة أخرى مع صديقه الإنكليزي الذي يعرفه، من خلال ما يصدر عنه من معلومات أو اعترافات لإضاءة عالم كل منهما، وبالمقابل، ميديت بعالمها الموازي تفجعاً لعالم السارد، لهذا فـ( إن رواية الذاكرة تستدعي ذاكرة الروائي نفسه، الذكريات التي يملكها عن ماضيه، الذكريات المباشرة أو تلك التي ينقلها إليه الآخرون.)" 5 "
مشاهد اللعبة تتنوع وتتصاعد تماشياً مع حركية السرد التي تشدنا إليه، لأن ما فيها تستجيب له نوازع نفسية لدينا كقراء هنا.
الكردي سارداً ومسروداً
ثبتُّ هذا العنوان الفرعي لدلالته المقدرة، وتجاوباً مع عنوان الكاتب الفرعي " أكراد مدغشقر. ص 23 ". ما المثار هنا؟
يدخل الكردي نص الكاتب الروائي من بابه الخلفي، دون أن يعرَف باسمه ومن يكون، ويخرج من بابه الأمامي والصريح جهة كرديته. في المسافة الفاصلة بين الحالتين" البداية والنهاية " المفترضتين، تكون " كريستال أفريقي " سرداً تاريخياً بصياغة فنية عن عوالم متداخلة، نسيجها العنف الذي لا يخفى بمؤثراته الحادة، والعابرة للقارات، والكردي في وضعه وتاريخه الانقسامي وجغرافيته المقسّمة يلفت نظر قارئه إليه، حين يكون ملماً به، أي باعتباره كردياً.
أشدد على نقطة جوهرية هنا، وتجنباً لأي وقوع لإسقاط تاريخي، ينزع عن نسيج الرواية فنيتها، ويقوّل السارد ما يخرج عن دائرة كونه مجرد سارد، وليس كاتب سيرة ذاتية، أو سارد وقائع تاريخية، هذه النقطة تبرز في كون الرواية تصل ما بين مسافات غاية في التباعد، ولكن وقع الألم وضحاياه، والذين يمثّلون تاريخ الجلادين، رغم اختلاف ألسنتهم، داخلون في عقد مشترك في العنف المسجّل تاريخياً ضدهم، وللسارد موقعه الذي يمكن قراءته وتفكيك مكوناته، استناداً إلى تلك الإضاءات التي تكون ذاكرته مصدرها . ففي صوت السارد الكثير مما يٍُمي تاريخاً على طريقته، وفي سرد الروائي الكثير مما يستوقف قارئه وهو يسمّي أولئك الذين يتلاعبون بمصائر شعوبهم هنا وهناك، كما هو الملموس في الرواية، وفي بنية الرواية تتفعل علاقات قوى تشير إلى لعبة العولمة وبعدها في تنويع عنفها.
في مستهل " أكراد مدغشقر " نقرأ ( في بلدتي الصغيرة التي ولدت فيها كان الزمن يسير ببطء محملاً ببساطة الروتين اليومي وقسوة الحياة التي بدت طبيعية حينها، حيث الفقر يربض في التفاصيل كلها ويرسم لوحة حياتنا. ص 23 ) .
أهي شهادة سِيَرية، أم جانب من سرد جرى تخيله لحظة السؤال عمن يحيط علماً بشخصية الروائي؟ لا ميكانيكية في الحدث، إنما ديناميكية علاقة تقوم على مأساة لها سردياتها الكبرى، حيث إن مفهوم " الزمن البسيط " يتولى أمر إدارة التصعيد بعنف الكامن، وما هو طبيعي ليس كذلك إلا بحكم القوة التي صيَّرت حياة من ينتمي إليهم الساد هكذا، باعتبار ذلك واقعاً لا مهرب منه .
ما يوسّع حدود هذا الصدع في أرضية المسرود، هو ما يتعرض له السارد من توتر في المطار عبر السؤال عمّن يكون، وليس بصفته يحمل الجنسية البريطانية، ليضطر إلى القول ( إنني كردي حاصل على الجنسية البريطانية.. بتعجب رد: كردي! استغرب ) ليحاول السارد التوضيح عما كان وكيف صار هكذا، وشعوره بالقهر، ليأتي على ذكر الدول التي تقاسمت وطنه: العراق، وتركيا، وإيران وسوريا( قال : نعم.. ثم أضاف: أعرف ما فعله الرئيس العراقي صدام حسين بالأكراد. ص26 ) .
الكرد، كانتماء جنسي قومي، معروفون في العالم في حدود الدول التي تقاسمتهم، وتكون أسماؤهم ضمن سجلاتها، وحتى في الدول التي يلجأون إليها، يكون ربطها بهذه الدول، وليس بوصفهم كرداً.
هذا ليس نسْج خيال إنما واقعة تاريخية، وحصيلة التجرئة الجغرافية كذلك. أي ما يذكّر السارد بإضافته إلى الغير، ليجري التعامل مع وتعريفه هكذا، وليس مباشرةً . وهي واقعة تتأكد باستمرارية سردية المأساة الكردية بين ماض ليس ببعيد، وحاضر قائم لا يشي غده بما هو مغاير له، عندما يعلم أن هناك كرد في مدغشقر، يعملون فيها، حال ذلك الطباخ المعتبر تركياً بجنسيته، حين يطلب السارد طبخاً كردياً، وعندما يصطدم السارد بقول رجل مدغشقري وهو يذكره بكردي كان له ماض في بلده، وعلاقة لأمه معه، وليعرَف بعد ذلك أنه ( أوصمان صبري . ص 37 ).
كان ذلك نفيه من قبل سلطات الانتداب الفرنسي في سوريا سنة 1937، وهي واقعة تاريخية بدورها، وليعرف بطيبته هناك " ص38 ".
كردي في كل مكان، وكردي في اللامكان، والذي يسمّي فيه سجل نفوسه باسمه، وموطناً ينتمي إليه، وهوية تتكلم بلغته، وليكون بالتالي معروفاً بالذين صادروا منه وفيه تاريخه، وعتَّموا على جغرافيته، وكينونته قومياً وإنسانياً . يا لقسوة الذاكرة وتراجيدية عالمها!
مزاوجة بين عمل الذاكرة الذي يضطر الراوي إلى الاعتماد عليها، رغم انجراحها، وعمل التاريخ الذي لا يخفى صدامه به، وكأنه باعتماد الذاكرة الخاصة به، يحاول تصويب تاريخ، وبتذكير ما هو تاريخي تعرية أوجه القبح فيه .
السارد لم يدخل في التفاصيل بخصوص " اوصمان صبري " الشاعر الكردي المعروف: 1905-1993 "، وهو ما يشكل نباهة سارد في إجرائه هذا، ليدخل مجال الاستزادة في التعرف عليه للقارىء، وهكذا الحال مع محاولاته المستمرة إجراء مقابلة مع " الزعيم " في نيروبي" عاصمة كينيا " باعتباره صحافياً، ومصاعب الوصول إليه، وعدم تمكنه من مقابلته، وعن طريق يوناني، ولهما ماض مشترك، ذاكرة تشاركية جهة العنف الذي نال منهما كثيراً من قبل العثمانيين الذين اضطهدوهما " ص 66 " والتوترات الدراماتيكية على أرضية العنف والأمن المتشدد وقوى الرصد البوليسية والاستخباراتية، واختطاف الزعيم، من نيروبي بين جنديين تركيين ( ليصبح الخبر الأول في العالم. ص 82) ، وتبعات الواقعة الصادمة للكرد عموماً، وأبعادها عالمياً( هناك من أشعلوا النار في أجسادهم! قلت لنفسي: إن احتجاج الكردي انتقام من ذاته قبل غيره. أي احتجاج هذا الذي يحاول دفع العالم للتندم والخجل مما حدث..! ص 82).
هنا نكون إزاء واقعة تاريخية تخص كيفية اختطاف زعيم كردي معروف، هو " عبدالله أوجلان " وكان ذلك سنة 1999، وفي نيروبي العاصمة الكينية، وبالتواطؤ بين أجهزة استخباراتية دولية، ودور المال، الرشوة في ذلك، وما في ذلك قذارة لعبة القوة وأخلاقياتها المرسملة في وقائع من هذا النوع، حيث إن السارد بلعبة ذكية لم يُسم الشخص" الزعيم " تاركاً ذلك لفضول القارىء، وما تصويره للذين حاولوا حرٌ أجسادهم احتجاجاً على مثل هذه اللعبة الخبيثة ودناءة السياسات الدولية ومصالحها.
مشاهد تترى عن العنف الفولكلوري: المباشر وغير المباشر، من خلال العلاقات القائمة، وما يبقي الذاكرة أكثر تضخماً وتألماً مع الزمن جرّاء ذلك( أستعيد تفاصيل حلمي الأفريقي الضائع، والذي يكاد يكون مثالياً لكردي يظل أسير أحلامه الكثيرة الضائعة المبددة وضحيتها المشوهة التي تكون مثيرة، لاستخلاص العبر وترويع الآخرين من التجرؤ على أحلام تفوق مستواهم... لا أصفه بالكابوس الأسود من منطلق عنصري يسيء إلى العالم الأفريقي الذي أجده ثرياً جداً بألوانه وأنوائه...ص 85 ) .
ثمة تقدم وتأخر، تذكير وتنويه وتعليق واستمرارية حلزونية في نسج السرد، وما في ذلك من إظهار جغرافيات واسعة، هي مسارح متداخلة مع بعضها بعضاً رغم الحدود الفاصلة، لأن العنف هو العابر والمسمي لجلاديه وضحاياهم هنا وهناك . تلك عملية يسهل التأكد منها، وتوثيقها في أفريقيا، وفي رواندا، ومأساتها الفظيعة سنة 1994، وتوترات حدودها مع الدول الأخرى. ذلك ما يرفد الرواية بالكثير مما يغنيها ويعمّق قاعدتها ويوسع فضاءها الفني بالمقابل، والذاكرة بطريقتها تمشهد وقائعها في مواجهة تاريخ مسطور خارج عن السيطرة، حيث ( يتميز العصر الحالي بتكاثر المساحات المخصصة للذاكرة الفردية والجماعية. هناك عدد لا يحصى من المعالم والمتاحف والخطابات المصممة لتذكيرنا بحلقات رئيسة معينة في تاريخنا، وخاصة تاريخ القرن الماضي. وتزداد هذه الظاهرة أهمية لأننا أصبحنا الآن نملك القدرة، من الناحية الفنية، على تجميع كميات هائلة من الوثائق من مختلف الأنواع) " 6 "
وصولاً إلى حديثه " السارد " عن الجنرالة الكردية، ومحاولة طلب العون لغرضه الذي خرج من أجله لتخليص صناديق الدولارات من مالي الدولة الأفريقية الفقيرة جداً، جنرالة في الجيش الأميركي، فلم تبال به ، وهي تصدمه في الصورة التي تأمل بها أنه سيحصل على ما يريد، وقد شرح لها المطلوب، وبتلك العنجهية التي تميز صرامة الأمر العسكري ، واعتذرت لأن أفريقيا، في حساب سلطاتها" الأميركية " المباشرة بعيدة.." ص 220 " .
السارد هنا يسعى جاهداً لأن يكون صمام أمان الحقيقة التي ألزم نفسه ككاتب مسكون بمفارقات التاريخ، في أن يكون مسمّي الجاري واقعاً، رغم متواليات الصدمات التي تعرض لها، وفي تلك الطرق والمعابر التي سلكها وتعرضه للمضايقات.
الفساد شاهد حال على واقع محكوم بالقوة الطاغية
في " كريستال أفريقي " من الصعب إن لم يكن مستحيلاً، إيراد كل أوجه العنف بأمكنته ووجوه المأهولين به، كباراً مع أذيالهم من حولهم، وعن بعد كذلك. يكون الجنرالات، بخلفيتهم الاجتماعية التجسيد الأعظمي لهذا العنف المتنوع، وهم في أفريقيا يتحكمون بمفاصل الأمور شاردها وواردها، وليس هناك من قوة تحول بينهم وما يريدون فعله، لأنهم يمتلكون القوة المساعدة داخلاً وخارجاً، ولكم واجه جننرالات من هذا القبيل، ومحاولاتهم ابتزازه وتهديده وفرض سلطته عليه، وسخف المتعلق بقيم من نوع الوفاء في عمل هؤلاء( الوفاء في عالمنا كلمة مثيرة للشفقة. والصدق المأمول نوع من السذاجة الطفولية، ففي عالم المال والتهريب ليس هناك أوفياء وصادقون.. ص 94 )، وفي الجنرالات المثال الحي في الدس والتلفيق والتعنيف والتسخيف، ومن يتم توجيههم، ومن يمارسون لعبة السر والعلن، بدءاً بالمترجم العراقي، كمثال لافت في اللعبة التي وجد نفسه فيها، لقاء عمولة يطرب لها، والسفارة الروسية في العراق ودورها القبيح في اللعبة( السفارة الروسية كانت تساعد بنقل أموال القيادات العراقية الكبيرة مقابل نسبة من الأموال التي تقوم بنقلها. ص 103 ) .
ليكون الكريستال الموسوم غطاء حيث الصناديق العالقة في المطار " في مالي، كانت صناديق تحوي ملايين الدولارات، وهي بذلك تحرّك جهات العالم قاطبة، وتشهّر في الذين تشاركوا وتواطؤ في نسج خيوط اللعبة هذه، ليجد السارد نفسه في حيرة من أمره وفي مسار جهنمي كهذا، وليجد نفسه في قلب كوميديا سوداء في " حاسة الحمير " أحد العناوين الفرعية في الروتاية( كنت أسخر أحياناً من نفسي وأقول: إن لدي حاسة الحمير. ص 114 ). ثمة محكومية قاهرة، وثمة رغبة منافسة، تحثه على الاستمرار في تمثل دور الحمار في تحمل المشاق والصبر، لعل مغامرته الماراتونية القارية تكون مثمرة، رغم اعترافه الضمني أن هناك ما هو أقوى منه ( الجحيم في داخلنا. أنت في افريقيا. هل تتوقع طقساً ربيعياً . وأجواء ساحرة. ص 118 ) . إنه الصراع بين قائمة الرغبات التي تتشابك داخله، اللعبة مغرية، لكن ما لا يمكن توقعه لا يستهان بوطأته في منعطفات تتباين في مكوناتها الاجتماعية والذين يتحكمون فيها، كما في سهولة التعامل مع الأوربيين لوضوحهم بعكس المسؤولين والمتنفذين والجنرالات الأفارقة حيث يصعب التكهن بردود أفعالهم، لهذا لا غرابة لأن يقول السارد ومن باب الاعتراف ( بالنسبة لي ظلت أفريقيا أرض الغرائب، غاباتها متاهات تقهرني.كل الدروب فيها تدور حول نفسها، وفي مسارات عمياء تقودني إلى الضياع.. ص 142 ). ليجد نفسه مأخوذاً بغواية اللعبة والمأمول منها.
ثمة تشريح لبنية الواقع الاجتماعي والسياسي الأفريقي، ومكاشفة للنزعات النفسية إزاء المعروض عليها وما يُتوخى منها.
وفي مثل هذا التقدم والتراجع، هذه الاستمرارية والتعرض لنكسات وهزائم تبعده عن تحقيق المبتغى، ثمة كشوف تتخلل كل مسافة يقطعها السارد في المدنية الأفريقية، وعلى حدود كل دولة، كما لو أن مهمة السارد في إظهارها للنور، والوضع ليس كذلك روائياً، إنما لدينا خريطة مرسومة بإحداثيات متنوعة، تشمل عوالم مختلفة، وفيها لعبة الظل والنور، الحرب كثيراً والسلام قليلاً.
وفي الجنرالات ما يصادق على سيرورة هذا الفساد الناخر في تلك المجتمعات بأنظمتها( الجنرالات هم القانون، وهم فوق القانون، هم من يسنّون القوانين، نفوذهم وشبكات مصالحهم عابرة للحدود. ص 193 ) .
ثمة الكثير في الرواية، بتلك التواريخ التي ما أن تلقّم " غوغل " اسماً معيناً يخص هذه الدولة الأفريقية، مقروناً بالعنف والفساد، وأي قوة تسوسه وتغريه بالاستمرارية، حتى تتسلسل قائمة كبرى من الإحالات المرجعية، والسارد لا يُسمي على طريقة الرحالة أو المؤرخ، وإنما ما يبقي للفراغات ذات الأثر من دور في تنفس النص الروائي، ومنح لعبتها تلك القيمية التي تمضي بها إلى الأمام. لعبة الفراغات، جهة عدم الدخول في تفاصيل تخرج الروائي عن " جادة صواب " الرواية، كما هي الفراغات القائمة بين أوتار آلة موسيقية، فدونها لا قيمة طربية أو فنية في العزف، ولنباهة السارد الدور الملهم في تحقيق ما يجعل الرواية مرشحة لأن تقيم في المستقبل .
وما يلفت النظر أيضاً، هو أن الرواية في نشأتها وليدة المختل في الواقع، والمعطل في المجتمع، والمنتكس في السياسة، والمأزوم أخلاقياً، إنها لم تلد في الحديقة، أو المرج الأخضر، أو بجوار نبع يتدفق زلالاً، أو تحت سماء تلهَم خيال الشاعر، أو على سفح معين تنعش الروح، وإنما ، كما هي نشأة القانون بالذات، وريثة آلام المجتمع وانحداراتها القيمية وفجائعها، كما هي القوانين المعبّرة بنية عن أولئك الذين يُشهَد لهم بالقوة، ويتحكمون بالمجتمع، ويمارسون عنفهم المشرعن بغطاء القوانين الصادرة.
وما لجأ إليه الكاتب عبر سارده، هو المضي في الكشف عما يلي المستور، وما هو منمّق في الكلام، ولافت بقيافته في هذه الشخصية الاعتبارية أو تلك، وأي نوعية جرائم تُرتَكب باسم الحقيقة، وباسم الحرية الجاري تقديسها وتفخيمها من قبل المنكلين بها واقعاً.
إغلاق ما لايُغلَق
لم يحقق السارد مبتغاه، لقد كان هناك قبض الريح. أو أسقط في يده نهاية. سوى أن ظهوره مهزوماً، مثقلاً بالخيبات، منجرحاً في روحه، لا يعني أنه لم يحقق هدفه وهو نصب عينيه. إن هدف الرواية ليس في الربح أو الخسارة، ليس تعظيم الجمال، وتأثيم القبح، إنهما يتساويان في عالم الفن، وأحياناً يبز القبح الجمال، حين يراد منه إظهار كم يعيش وضعية المظلومة، والقبح يستبد به عملياً، الرواية في نشأتها، لأنها وريثة تاريخ طويل من الآلام التي تخص البشرية، وفي تنوع انتماءاتها ،وهي تسلك هذا الطريق، يكون إخلاصها لسلوك طريق مملوء بالآلام التي تدفع بالقارىء إلى إمعان النظر على الجهتين، هو علامة استمراريتها في الزمن، وليس على طريقة " توته توته خلصت الحدودته " الحدوته الرواية لا تنتهي، بقدر ما تباشر دورها في بدء جديد ينخرط في لعبة التجاذبات واقعاً وبين قرائها، والذين يقبِلون على قراءتها، للنظر في مغذياتها المختلفة، وتناولها من مواقع مختلفة.
السارد يصل بالراوي ليس إلى الطريق المسدود، إنما الطريق الذي يصدمه بسدود تحول دون تقدمه، لأن هناك " وراء تلك السدود " أنظمة عنف بالغة البطش، تهدد كل من يقاربها بالجرف والإغراق .. في لعبة المفارقات الدالة على واقع يثير الدهشة والاستغراب، من لحظة قوله، إثر رؤيته لتلك الجنرالة الكردية والمحسوبة على غيرها، وليس على كرديتها، وداخله يصرخ( سأصبح جنرالاً كردياً في هذه الجبال، ولن أسمح لأحد لأن يسلبني هويتي وأحلامي. ص 222).
إنما هل من رقعة جغرافية، ولو جبلية النسَب تضمن له استمرارية في استمراء ما يحلم به ويصبو إليه؟ ماذا يفسر التقاؤه غير المحتسب، وهو مقدر طبعاً بتلك الدورية التركية ، بالقرب من قرية كردية خالية من سكانها في الجبال. وقد نظر عناصرها إلى هيئته المزرية، يسخرون منه ، وهم يقولون( أهلاً بك أيها الصديق الكردي المجنون.. اغرب عن وجهنا.. امض في طريقك.. هذه الجبال الجرداء مقبرتك. ص 22 )
ثمة انسداد الأفق، والإحالة على واقع متخم بالآلام بالمقابل.
هنا تكون يقظته، وشعوره بحصاد مغامرته( عدت إلى مستنقع الفقر المدمر. ص 227 ).أثر المال أغواه، ولكنه، وباعتباره كردياً، ويرفض الاعتراف بالنهاية الصادمة لمغامرته البحثية عن المال، يصر على الاستمرار، وكله تساؤل( أيعقل أن تكون هذه نهايتي..! هذا السؤال حرَّض لدي آليات البحث وأ{جأ اجترار اتلمحنة لوقت آخر..)
ثم بعد ثلاث إشارات ( ***) تختتم الرواية عملياً هكذا( - الخيبات لا تنتهي- ) وتأريخ الانتهاء منها" لندن،ديسمبر 2022 " " ص 230".
عبارة ( الخيبات لا تنتهي ) إشكالية، لا تنفصل عن واقعها، عما يتفكره الروائي نفسه، إنها من جهة، اعتراف باستحالة تغيير ما هو قائم، نوعياً، ومن جهة أخرى، تأكيد على أن الحياة أكبر مما يُفكّر فيه، وثمة قابلية للاستمرار، والبحث عن خيارات أخرى قائمة.
في النقطة البينية هذه، يتقابل كل من الذاكرة والتاريخ، تنقسم الذاكرة على نفسها كذلك، باعتبارها تحيل على ماض ليس فيه ما يريح، وتحيل على ما هو قائم، وفيه ما يحفّز الذاكرة على الاستمرارية، أي ما يستدعي وجود المختلف، ما يجعل الذاكرة مقاوِمة، حيث :
( إن التذكر ليس إحياءً للماضي، بل هو فتح للاختلاف الذي يتعامل مع المستقبل. "في ذكرى"، تترك الآثار كلمات وخيالات واستعارات تعد بمستقبل. وهكذا تصبح الذاكرة تفكيرا. فهو يقاوم أي استيلاء. إن الالتزام بالحفاظ عليه هو بمثابة إنشاء تحالف مختوم بـ "نعم" لا تحيي الآخر، بل تجعله يأتي.) " 7 ".
أترانا في مواجهة ما جرت قراءته، إزاء توسيع الصورة لرؤية التفاصيل، بدقة أكثر؟ كأني بالسارد أراد إظهار لاتناهي حدود الوجع المسبب لمن يفتقد كياناً سياسياً باسمه، ويرفق قيمياً " دونياً " به، وما يترتب عليه من الدخول في لعب أدوار ليكون كغيره اعتباراً، ويصله ذلك بآخرين، مع فارق نوعية الوجع، والمصاب الذي يخص الهوية، والجغرافيا، واللغة، والهوية وتقويمها هنا وهناك..
لعل الكاتب وعبر سارده لا يساوم على ذاكره، أو يقايضها بتاريخ لم يتحصل بعد، ورغبة في التحرر منه، بالعكس من ذلك، إنه يتقدم بها، باعتبارها الملاذ الأكثر قابلية لرفد المطارَد من تاريخ لا يوليه اهتماماً، ولا يقرّ بحقيقة كونه المختلف بكل ما فيه، والإمكانية الأكثر أهلية لأن تروّح عن نفسه، حداداً على ما كان، وتأسياً بما هو كائن، وتماسك قوى نفسية للنظر إلى البعيد، وليس البقاء في ربقة القريب حصراً.
ربما هي العبرة الأكثر كريستالية، عزاء لمن يجدون أنفسهم، أينما كانوا مهمشين في مجتمعات لا تعرفهم إلا تنسيباً إلى آخرين، هم أنفسهم يمثّلون سطوة ذلك الطريق المستبد بهم بالمدوَّن فيه، واحتجاجاً على استمرارية هذه اللعبة الهمجية بمتوالياتها الأخلاقية.
مصادر وإشارات
1-هيثم حسين: كريستال أفريقي، دار عرب، لندن، ط1، 2024، 232 صفحة، وكل الإحالات المرجعية ضمناً، تخص هذه الطبعة.
-2Yan Hamel: La mémoire de la mémoire,La bataille des mémoires:
La Seconde Guerre mondiale et le roman français
يان هامل: ذاكرة الذاكرة، معركة الذكريات: الحرب العالمية الثانية والرواية الفرنسية
-3Nicolas Bénies: Le roman comme travail de mémoire,18-5-2012
نيكولا بينيس: الرواية كعمل للذاكرة
-4Geneviève Champeau: Les « romans de la mémoire » renouvellent-ils le roman à thèse ?
جينيفييف شامبو: هل تُجدِّد «روايات الذاكرة» أطروحة الرواية؟
-5 Philippe Merlo-Morat :Le roman de la mémoire face à l’histoire « escamotée »
فيليب ميرلو مورا: رواية الذاكرة في مواجهة التاريخ "المخفي"
0 تعليقات