من المكان المسكون برائحة البازلت خرج فنّان تشكيليّ له خصوصيّة ذات فرادة، فهو لم يغادر مسقط رأسه لأكثر من أيّام معدودة، كائن متشبّع بالمكان وعناصره، متماه مع أساطيره وتاريخه، كيف لا ومدينته "شهبا" كانت حاضرة العالم في عهد الإمبراطور الرومانيّ "فيليب العربيّ".

"حميد نوفل" فنّان تشكيليّ من مواليد مدينة شهبا في محافظة السويداء عام 1967 ، عضو في اتحاد الفنّانين التشكيليّين/ فرع السويداء، شارك في العديد من المعارض الفرديّة والجماعيّة، وصمّم شعار "مهرجان شهبا السياحيّ" وكذلك شعار "فريق نفس الثقافيّ" يعمل في محترف خاصّ في مدينته "شهبا". أجرى معه موقع "هلات" الحوار التالي ضمن سلسلة الحوارات مع المبدعين السوريين:

 . ما هو اللون بالنسبة إليك؟ هل هو كائن حيّ؟ أم هو معادلة كيميائيّة تعيد مزج عناصرها لتخلق في كلّ لوحة كائناً حيّاً يحمل هواجسك؟

اللون هو انعكاس حالاتنا وأثرها بما تختزنه من انفعالات وتقلباّت، والتعبير الأكثر تأويلاً، يتلقّاه قارئ اللوحة حسب مراكمته المعرفية أو النفسيّة، واللون عندي هو ما يمنح الحياة معنىً آخر، هو وقتي المكتنز، الكامن، الذي سيجعلني أعيش شفف انتقالي إلى زمن آخر، ويحعلني حيّاً بلوحتي.

 . ماذا قدّمت لك "شهبا" بعمقها التاريخيّ، وحجارتها البازلتية، وآثارها؟ ماذا قدمت هذه المدينة ل "حميد" الإنسان؟ وماذا قدمت لتجربتك في الفن التشكيليّ؟

يكفي أن تدخلها من بوّابتها الأثريّة، كي تشعر كم أنت: أنت، وكأنّك مدعوّ للتباهي بذاتك، لتخلع عليك لقب "فارس"، إن كان في جوهرك استحقاق لهذا اللقب، وهذا ما أنا عليه في "شهبا"، "شهبا" أهدتني مفتاح التأمّل والإصغاء، وكأنّها منحتني العزلة عن كلّ هذا الضجيج والاكتظاظ عبر تعويذة ما، لكي لا أشعر سوى بالانتماء لها جسداً وروحاً، فعندما أمارس شغف الحوار التأمليّ الصامت مع ما تبقّى منها، هذا الحوار الذي يختزن في جعبته الكثير من الحكايات، خاطبتها بتصوّراتي ومشاعري التي تمكّنت من صوغها مساحاتٍ لونيّة تتدفّق بعبق المكان والإنسان والتاريخ، في "شهبا" الاحتضان، والحبّ، واللوحة، أنا المتورّط بهذه المدينة بعمق، وبامتداد العصور تجذّراً في داخلي، وكأنّها قدرٌ يلاحقني، تأتيني من حيث أدري ولا أدري لتكشف لي مع كلّ نبضةٍ سرّاً من أسرار جمالها، وأنا في شهبا آخر من ينسج حكاياها لوناً لذكريات زمنٍ قادم.

. انت تلجأ إلى استخدام الكولاج في قسم كبير من أعمالك، برأيك ما هي الأشياء التي يقولها الكولاج عبر حضوره في اللوحة؟

(الكولاج) هو لصق نواة أخرى على سطح العمل، نواة مختلفة تماماً عن نسيج العمل المنفّذ بتقنيّة ما، يُستخدَم من عناصر مثل "الورق" و"المعدن" و"الخيط" و"القماش" .....إلخ، ما يقدّمه "الكولاج" ـ إذا تمّ توضيفه بحسّ فنيّ متفرّد ـ يشكّل  إغناءً للمساحة واستفادة من تلك المواد التي تأتي بهيئة ضيفٍ على اللوحة لتحقّق الغاية الإخراجيّة من حيث التباين في السطوح، وخلق مستويات متعدّدة، وإحداث عامل الدهشة والغرابة بخصوص كيفيّة توظيف تلك المواد لتكون من سياق العمل إخراجيّاً وفكريّاً، فلا يجوز استخدام المواد الكولاجيّة لمجرّد اللصق فقط وتسميها "كولاج" ، فالفنّان الذي يدخل " الكولاج" إلى أعماله يجب أن يكون لديه مخزونٌ عالٍ من المخيّلة ليحقّق معادلة الغرابة والإدهاش والإقناع.

. كيف تبني عوالم لوحاتك؟ هل تلجأ إلى الفكرة ؟ هل تستوحي من الطبيعة، هل تستخدم التجريب اللوني؟ 

من الطبيعيّ أن يكون الفنّان متفاعلاً مع محيطه، مع المكان، ومع الحدث، ومع قارئ اللوحة، ضمن هذا التفاعل يقدّم الفنّان ذاته بتخيّله الخاص، ليكوّن نصّه اللوني، رسالته، لوحته ذاتيّةً تمثّل انطباعاته عن الحالات التي تفاعل معها، الفكرة .. الطبيعة .. التجريب اللوني، كلّها انعكاس لوحتي، لوحتي هي الصراخ اللونيّ المنحاز إلى السطوع، إنّها وحشيّة المعنى، إنّها الظهور الواضح الفجّ للغضب على الواقع، الغضب الذي أحاول صياغته لوناً مبعثراً وشكلاً مبعثراً ، فلربّما يصير أجمل، ألوان لوحتي تتوالد من بعضها كأنّها تبحث عن تكوينٍ جديدٍ للحياة، تكوين جديد يخرج من رحم ريشتي

هل تأثرت بالمدارس الفنية الغربية؟ أم الشرقيّات؟  

بالنسبة لي، يمكنك أن تقول إنّني نأيت بنفسي إلى خارج هذه الحالات؛ التأثّر، أو التقليد، أو النسخ، أو المثل، أنظر بعين القارئ أو الباحث إلى المنتَج، ليَ انطباعي الخاصّ ومخزونيَ الفنّي كمتابعٍ جادّ للتطوّرات والتحوّلات التي تطرأ على الفنّ التشكيليّ، أعتقد أنّ الفنّ هو الفنّ خارج تصنيفات الاستشراق أو التغريب، كما أنّ لكلّ شعبٍ موروثه وآليّاته في تقديم تاريخه الفنّيّ الذي يمثّله.

هل تتبنى مدرسة معينة في رسوماتك ؟ التحريديّة مثلاً أو التعبيرية أو الانطباعية، أم انك تخلق في لوحاتك مزيجاً خاصاً بين المدارس الفنية؟

إنّ العمل التشكيليّ لديّ هو حالة غوص في العمق، ومحاولة جريئة للتشكيل المتحرّر ممّا هو لازم ومفروض، هكذا تولد لوحاتي أو منحوتاتي، لتكون نتاجاً فعليّاً للحالة الحسّية الحدسيّة المتأمّلة.

هل تعتقد ان الفن التشكيلي اليوم قادر على إيصال رسالته في ظل المتغيرات التي أفرزها النسيج السوري بعد عام 2011؟

نحن علينا أن نقول: كلمةً .. لوناً .. لحناً، علينا أن نعبّر عن ما نعيشه، فرحاً أو حزناً، وفي مرحلة ما، سيقدّم الفنّ رسالته التي سيقول من خلاها شيئاً ما، علينا أن نقول ما لدينا كرسل للفن، ولكن يبقى السؤال الجوهريّ: هل هناك متلقّ يجيد قراءة الرسالة؟

الكثير من الفنّانين قدّموا عبر هذه المرحلة أعمالاً تحمل رسائل قادرة على التعبير عن المأساة السوريّة التي نعيشها، أنا ـ على سبيل المثال ـ في بداية عام 2011 أنجزت أعمالا كثيرة العدد وكبيرة الحجم وعميقة التعبير عن المأساة، وما زالت هذه الأعمال تحتضنني وتحتضن بعضها بين جدران مرسمي، نعم، التشكيل مؤثّر حقيقيّ وفعّال، وحامل رسالة، ومعبّر ودالّ واضح عن الحدث والحالة.

في منتصف تجربتك التشكلية لجأت إلى تقنيّة الخيط كشكل من أشكال الكولاج، ورحت تطوّرها شيئاً فشيئاً، ماذا أضافت تقنيّة الخيط على مستوى الشكل والمضمون للوحاتك؟

 أثناء تجوالي في المكان الذي أعيش فيه، وهو ـ كما يعرف الجميع ـ منطقة جبليّة، رأيت ارتفاعات مختلفة في طبيعة المنطقة تمنح الفنّان شعوراً وكأنّه يبحث عن شيءٍ ما، رأيت مساحات واسعة من الأراضي الزراعيّة المتباينة التكوين، ما أدهشني خلال هذه المشاهدات هو اكتشافي أنّ تلك المساحات الزراعيّة تنفصل عن بعضها بسلاسل من حجر البازلت، ممّا جعل كل قطعة أرض تبدو محاطة بتلك الخطوط الحجريّة السوداء بمشهد مغرقٍ بعفويّته وبكارته، من هنا بدأت أرى في تلك السلاسل الحجريّة عناصر زاخرة بالحياة، كلّ عنصر من بينها يحيلني إلى كائنٍ ما، فاستلهمت هذه العناصر واستخدمتها في لوحتي كخطوط كولاجيّة بارزة لإضافة تصوّر جديد عن مفهوم الكولاج هو "الخيط"، وجعلت بينه وبين اللون الترابيّ علاقة تدلّ على هويّة المنطقة الجبليّة.

ما هي مشاريعك القادمة؟

ما زلت في طور الإنتاج، شأني شأن الكثيرين الجادّين بشغفهم التشكيليّ، مشاريعي تنحصر في خلق مكانٍ أوسع وأرحب لتقديم نتاجي الفنّيّ.

 في كلمة أخيرة، بماذا تنصح الفنانين الذين بدأوا شقّ طريقهم في عوالم التشكيل اللوني؟

الفنّان ليس بحاجة إلى نصيحة إذا كان فنّاناً حقيقيّاً بكلّ ما تحتويه هذه العبارة من معانٍ ودلالات، بل يحتاج دعماً وتشجيعاً مستمرّين، يحتاج تقديراً وتقييماً عادلاً لما يقدّمه، أريد فقط أن أقول كلمة للذين يتّخذون من التشكيل اللونيّ سبيلاً لقول مفردات شغفهم، والتعبير عن هواجسهم، أقول: (كن حرّاً في داخلك، وارسم أكثر مّما تتكلّم، واغترف من منابع الجمال أينما تعثر عليها أو تجمعك بها مصادفة، وعندما تتماهى مع مفردات الجمال التي تعثر عليها أو تصادفها، ستصبح ذا مخيّلة خصبة، وعندها ستكون لوحتك أكثر فرادة وخصوصيّة وقيمة.

الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).