في عالم الأدب والنقد، حيث تتواشج الرؤى والأفكار وتتفاعل لتسهم في تشكيل المشهد الثقافي النقديّ، تبرز أصوات لها فرادتها وتأثيرها في المشهد، ومن بين هذه الأسماء تطلّ علينا د. خولة حسن الحديد، الناقدة الأدبيّة التي تجمع بين الشغف بالكتابة النقديّة، والفهم العميق للنصوص الإبداعيّة.

في هذا الحوار نستكشف بداياتها مع النقد، وكيف أثّرت تجربتها على تفكيرها وقراءتها، بالإضافة إلى منهجها النقديّ والمعايير التي تعتمدها في كتاباتها.

نتناول أيضاً التأثيرات التي تلقّتها من المدارس النقدية الغربيّة وتجارب النقّاد العرب.

هي دعوة من موقع "هلات" لاستبطان عوالم النقد في تجربة د. خولة حسن الحديد، من خلال الحوار التالي:

- كيف تصفين بداياتك مع الشغف بالكتابة النقديّة، وماذا أضافت لك تجربتك في ممارسة النقد على مستوى التفكير والقراءة النصوص الإبداعيّة وانتقاء ما يجذبك منها؟

بدأ اهتمامي بالنقد الأدبيّ، وبشكل أشمل، ما يُسمى ب"النقد الثقاقيّ" والفكر الاجتماعي في مرحلة مبكّرة من حياتي، ربّما منذ المرحلة الثانويّة، ويُمكن اعتبار ذلك ك"مَلَكة" أو موهبة تمّت تنميتها لاحقاً بالدراسة العلميّة والقراءات المتعدّدة، وبشكل فعليّ وواقعيّ ساهمت دراستي لعلم النفس في تأكيد هذه المَلَكة، وكانت أولى كتاباتي النقديّة تستند إلى العلوم النفسيّة ومدارس النقد النفسيّ للأدب، وقد أضافت الكتابة النقديّة الكثير لحصيلتي المعرفيّة، وهذّبت من تذوّقي الفنيّ للنصّ الأدبيّ، ولانحيازي للجماليّات والفنيّات أكثر من الحكاية أو المضمون في النص.

- ما هو المعيار الذي يقوم عليه منهجك في الكتابة النقديّة؟ وهل تعتمدين على أسلوب معين؟

 النقد الأدبيّ  إضافة إلى كونه جنس أدبيّ ويتطلّب موهبة ودراية، لكنّه في النهاية هو علم، وبشكل أوسع كما في النقد عموماً، في الدراسات الثقافيّة والفلسفيّة والفكر الاجتماعيّ، وهذا العلم قائم على مناهج وأدوات متعدّدة ومختلفة، تجعل من النتاج النقديّ منتجاً علميّاً، موضوعياًّ، فالكتابة النقديّة تتجاوز مسألة التذوّق الفنّيّ والجماليّ، والتي على أهمّيّتها، هي بحدّ ذاتها تخضع للمعايير الموضوعيّة، ومع تعدّد وتنوّع المعايير والمناهج، ككاتبة في هذا المجال، لا أنحاز إلى منهج أو معيار بعينه، وأفضل الاستفادة من مختلف المناهج والمدارس النقديّة، وبهذا الصدد تجدّر الإشارة إلى نقطة مهمّة جداًّ، وهي أنّ النصّ غالباً ما يفرض على الناقد الأسلوب الذي ينبغي له اتباعه أو المنهج الذي سيقرأ به النص قراءة نقديّة، وأجمل وأفضل النصوص وأكثرها متعة للناقد، هي تلك التي تستجيب إلى العديد من القراءات والرؤى المعياريّة والمنهجيّة.

- هل تأثّرت بمدارس النقد الغربيّة أكثر أم بتجارب النقّاد العرب؟ ومن هم النقّاد الذين تعتبرين نفسك مدينة لهم بفتح آفاق لك في تجربة الممارسة النقديّة؟

 المعرفة تراكميّة، وتاريخ المعارف والعلوم الإنسانيّة يقول لنا أنّ ما نتعامل معه في اللحظة الراهنة، هو نتاج تراكم معرفيّ عالميّ عبر زمن طويل جداً، ومتعدّد ومتنوّع الثقافات، لذلك لا أميل إلى فكرة التأثّر بالثقافة المحليّة أو التي أنتمي إليها لغويّاً، ولا التأثّر بثقافات أخرى في الغرب أو الشرق، بل أحاول أن أنهل من كلّ المعارف المتاحة، فمن التوحيديّ في الإمتاع والمؤانسة والجرجاني إلى جيرار جينت وجوليا كريستيفا، ورولان بارت وجاك دريدا وباشلار ...وغيرهم، أحاول أن تكون لديّ إحاطة بكلّ الأدوات النقديّة والمعارف التي أنتجتها الإنسانيّة عبر تاريخها في كل مكان وزمان، وأستفيد من هذا كله.

بهذا الصدد  أيضاً، لا بدّ من الإشارة أنّ المعارف في النقد الأدبيّ ونقد الفن التشكيليّ تتداخل مع مختلف معارف العلوم الإنسانيّة، والدراسات اللغويّة، والكثير من المناهج النقديّة الأدبيّة ولدت من رحم العلوم النفسيّة وخاصّة التحليل النفسيّ، وأيضاً الدراسات اللغويّة ودراسة بنية اللغة وتطوّرها، وهذا ما يدين به الأدب للعلوم النفسيّة، فالعديد من نظريات اللغة واللسانيّات جاءت كنتاج نفسيّ أولاً،  لأكون صادقة ومنصفة أعتقد أن كتابتي النقديّة أميل إلى المدارس النفسية والاجتماعية وما انبثق عنها من مدارس نقديّة. 

- هل تواجهين تحدّيات أثناء الكتابة النقدية؟ وما هي أبرز هذه التحديات؟

إطلاقاً، لا أعتقد أنّ هناك تحدّيات جديرة بالذكر إذا ما أخذنا معنى "التحدّي" بحرفيته، ولكن أعتقد أنّه يوجد ما يُمكن أن أسمّيه ب"العبء" أحياناً، أو ما قد تفترضه القراءة من سوء فهم من قبل القارىء، وعلى سبيل المثال، ما زال غالبية القرّاء يأخذون كلمة "النقد" كمفهوم على محمل السلب لا الإيجاب، أو بمعنى "التقييم"، وهذا الرؤى التقليديّة بالنظر إلى النقد، قد تُشكل عبئاً على الناقد، لأنّ مفهوم النقد قد تغيّر عبر الزمن، ولم يعد من شأنه الحكم على جودة  النصّ أو غياب جودته، بل هو عبارة عن قراءة للنص برؤية مختلفة، وإبراز لجمالّياته وفنّيّاته وأسلوبه، وهي قراءة مزوّدة بمعايير علميّة، ولغويّة، وجماليّة موضوعيّة، تقرّب النصّ من ذهن القارىء، وتخلق جسوراً بين النصّ والقارىء، تلك الجسور التي لم يصنعها كاتب النص.

- ما الذي يميّز نثر (خورخي لويس بورخيس) برأيك عن باقي كتّاب أمريكا اللاتينية، وما الفكرة التي ألهمتك لكتابة دراسة نقديّة حول الحلم والذاكرة في نثره؟

أعتقد كما كثر غيري، ومنهم من كتّاب أمريكا الجنوبية واللغة الإسبانية، أنّ خورخي لويس بورخيس هو حتّى الآن أهم كاتب في أمريكا الجنوبيّة، لأسباب عدّة، أبرزها تنوع نتاجاته ما بين النثر والشعر، وتنوع نثره أيضاً ما بين قصة طويلة أو قصيرة جداً، أو كتابة سرد نثريّ فلسفيّ، وكتابة المقال الصحفي، إضافة إلى جنس جديد في الكتابة يُنسب اختراعه ل"بورخيس"، وهو القصة -المقال، فبورخيس رائد في نتاجه الأدبيّ الفريد والمتنوّع، وأيضاً ما يبرز أهمّيّة بورخيس هو ثقافته الموسوعيّة وتعدّد اللغات العالميّة التي يتقنها ومنها اللاتينية والاسكندنافية القديمة، وهذا وسّع من آفاق رؤاه الكتابيّة، ومن الرؤى المتنوّعة التي تطرحها نصوصه، ويجمع بورخيس في أعماله بين مختلف عناصر هويّته كأمريكيّ لاتينيّ وكأرجتينيّ، وبين عناصر متعدّدة من مختلف ثقافات العالم، وقد ترجمت أعماله إلى كل لغات العالم تقريباً.

 كما يُشكّل إنتاج بورخيس الغزير بعد فقدانه لحاسّة البصر لأكثر من عقدين ظاهرة لافتة، وتستحقّ الإعجاب والتوقّف عندها، وخاصّة لجهة التحوّلات التي طالت أسلوبه في الكتابة، وما تركه فقدان حاسّة البصر من أثر على شخصيّته ككاتب وعلى لغته وأدبه.

أما بالنسبة لاختياري لبورخيس وقراءتي لنثره في كتاب (الحلم والذاكرة في نثر بورخيس)، فلأنّ بورخيس كان من أشدّ المعجبين بالتراث العربيّ والإسلاميّ، وكان يعتبر كتاب ألف ليلة وليلة قرآنه، وكان يقرأ فيه كلّ ليلة قبل النوم، واستمدّ منه الكثير من نصوصه، وتأثّر جداً بالكتابة العربيّة الصوفية والمتصوّفين العرب والمسلمين، وأخذ عنهم الكثير، من مثل ابن عربي، وفريد الدين ابن العطار وغيرهم، وكان بورخيس مفتوناً بالتراث العربي وفنّ المقامات البغداديّة، والشعر العربي، ومعجباً كبيراً بلغة القرآن الكريم، وتحفل نصوص بورخيس بتناصّات متعددة الأشكال والمضامين من ذلك التراث، ولأنّ نصوص بورخيس صعبة قليلاً، وغير مرغوبة القراءة من قبل كثر، فشعرت بضرورة تقديم هذه النصوص للقارىء العربي، وجزء من هذا الفعل كان يحمل شعوراً كبيراً بالامتنان لهذا الرجل الذي قدّم الثقافة العربية والإسلامية إلى العالم في أبهى صورها، في الوقت الذي عمل كثيرون حتّى من أبناء هذه الثقافة، وأبناء منطقتنا على تشويهها وكيل الاتهامات لها.

- من "التوحيدي" و"الجاحظ" إلى "محي الدين صبحي"، ومن الشكلانيّين الروس إلى "ماكس فيبر"، هل ترين سياق تطوّر النقد عند الغرب واضحاً أكثر ، أم أن العرب قد طوّروا أدواتهم النقديّة بصورة أكثر جلاءً؟

قد تكون بعض من إجابة على هذا السؤال، مُتضمّنة في سؤال سابق، فكما أشرت سابقاً المعرفة تراكمية، والثقافات والمعارف تنتقل وتتثاقف وتتلاقح، وأيّ ناقد متمرّس بالعربيّة، سيجد جذور الفكر النقديّ لمختلف المدارس الغربيّة موجودة في تراثنا العربيّ، ومنها ما عرفه العامة، ومنها ما زال مغموراً في بطون الكتب ولم يعرفها إلا القارىء والناقد المهتمّ بالمعرفة، ولكنّ تطوّر الفكر النقديّ أخذ في الغرب سياقات مختلفة عمّا هو عليه عند العرب، وهذه السياقات هي جزء من تطوّر مختلف نواحي الحياة في الغرب، وخاصّة في مجال العلوم التي انبثقت عنها المناهج النقديّة، والنقد كأيّ نتاج علميّ آخر، هو انعكاس للمجتمع وللمناخات السائدة فيه، وإذا أردنا أن لا نجانب الحقيقة والموضوعيّة، فسنجد أنّ المجتمعات العربيّة متوقفةّ عن الإنتاج منذ قرون، الإنتاج بمعناه الواسع وبمختلف مجالات الحياة، ومن ضمن ذلك الفكر النقديّ ومناهجه وأدواته، وأصبحنا نستوردها من الغرب كما نستورد التقنيّة ووسائل الاتصال والأدوية وغيرها، وغالبيّة الإنتاج النقديّ العربيّ المعاصر يتمّ بأدوات غربيّة وبمناهج غربيّة، رغم أنّ جذوره موجودة في التراث العربيّ، لكن نحن آثرنا حتّى ألّا نعرف أنفسنا، وهذا كلّه جزء من لحظة الانهيار الراهنة التي تعيشها مجتمعاتنا.

- كيف ترين دور الباحث الأكاديميّ في تشكيل الوعي الاجتماعيّ، خاصّة في مجتمع يمرّ بمتغيّرات سياسيّة واجتماعيّة كبيرة مثل المجتمع السوريّ؟

 يحتاج الباحث الأكاديميّ لمناخات مناسبة ليلعب دوره المؤثّر، وللأسف هذه المناخات غير متوفرة في مجتنمعنا، لذلك أجد أنّ دوره ضعبف جداً وشبه غائب، وهو حبيس أسوار الجامعات، وبحوثه - إن أنجزها - حبيس مراكز البحوث والدراسات، وإن نُشرت لا يقرأها إلا فئة قليلة، والأكثر حاجة لها لا تصلهم، وللأسف لا يوجد لدينا مراكز بحث علميّ بالمعنى الحقيقيّ، ولا مؤسّسات أكاديميّة تتوفّر فيها بيئة حاضنة للإنتاج العلميّ، لأنّ الحرّيّة أوّل شروط ذلك، وهي الغائب الأوّل عن مجتمعنا ومؤسّساتنا.

وللإنصاف، أثّر بعض الأكاديميّين والمفكّرين بشكل إيجابي في مجتمعنا، أمثال "الطيب تيزيني"، و"صادق جلال العظم"، و"فاخر عاقل" و"سامي الدروبي" و"سامي الجندي"... وبعض من جيلهم، ولكن الأجيال التي جاءت بعدهم ما زالت ضعيفة التأثير، وتدور في حلقة مفرغة من التكرار وإعادة اجترار الأفكار والأبحاث ولا جديد، وحرفيّاً: نحن نحتاج إلى ثورة فكريّة وثقافيّة واجتماعيّة بقدر حاجتنا إلى التغيير السياسيّ، والذي أعتقد أنّه غير ممكن من دون إنجاز الثورة تلك وبشكل جذريّ.

- كيف تتعاملين مع تحديّ الحياد في الأبحاث والدراسات الاجتماعيّة في ظلّ البيئة السياسيّة المتوتّرة؟ وهل تعتقدين أنّ للباحث دورًا في التغيير الاجتماعيّ أم ينبغي له أن يظلّ محايدًا تمامًا؟

الدراسات الاجتماعيّة والنفسيّة، وحتى الثقافيّة، تقوم البحوث فيها على مناهج معيّنة، حسب البحث وطبيعته، وخيارات الباحث وما يلزمه به بحثه، ومن طبيعة هذه المناهج أن تقدم للباحث أدوات ومعايير تجعل من نتاجه علميّاً، وموضوعيّاً، وقابلاً للقياس، ومهما كانت الرؤية السياسية للباحث، فعند قيامه ببحثه ترغمه المناهج والأدوات العلميّة لأن ينحو نحو الموضوعيّة، وكلّ بحث يحمل رؤية شخصيّة للباحث سيكفّ عن كونه علميّاً، ولا شكّ أنّ للباحث دور مهمّ في التغيير الاجتماعي، وفي تغيير وعي عامّة الناس، والارتقاء به للأفضل، ولكن كما ذكرت سابقاً، إن إمكانيّة تحقيق ذلك محدودة جدّاً في مجتمعنا وبيئتنا الحالية، وعن الحياديّة لا بدّ من التأكيد على نقطة مهمّة، الحياديّة والموضوعيّة يتطلبها بحث علميّ مضبوط، يتقن الباحث فيها أدواته، ولكن كلّ ذلك لا يمنع أن يكون الباحث منحازاً لقضايا مجتمعه إنسانياًّ وأخلاقياًّ، فالباحث والأكاديميّ في النهاية هو إنسان، وعليه أن ينحاز للإنسانيّة وللأخلاق والقيم، حتى مهنيّته وضبطه علمياًّ لابحاثه يأتي من هذه الأخلاقيّات، فلا يُمكن كإنسان أن لا تنحاز للمظلوم وللقضايا العادلة، وتقف ضدّ الظالم وتسعى لإحقاق العدالة، فالباحث هنا كالطبيب والنجّار والخباز، كلٌ منهم يتقن عمله، وعليه إنسانيّاً وأخلاقيّاً أن ينحاز للخير والعدالة ضدّ الشرّ والظلم.

- ما هي القضايا الاجتماعية التي تجدينها الأكثر تأثيرًا على النسيج الاجتماعي السوري في الوقت الراهن؟ وكيف يمكن معالجتها من منظور علم الاجتماع؟

 كثيرة هي القضايا التي تهدّد النسيج الاجتماعيّ السوريّ، وأبرزها برأيي هي قضيّة الفقر والعوَز والذي لم يشهد المجتمع السوري مثيلاً له عبر تاريخه الوجودي كلّه، وغياب التعليم الجيد، وغياب مختلف مناحي التنمية، وينتج عن ذلك تشظّي المجتمع، وانتشار الفساد، وإثارة النعرات القبليّة والطائفيّة والدينيّة، ففي مجتمع تنقصه أبسط مقوّمات العيش الكريم، تزدهر كلّ الأمراض والآفات الاجتماعيّة والنفسيّة، وأنت لا يمكنك أن تعالج أيّ مشكلة هي نتائج لمقدّمات من دون أن تغيّر تلك المقدّمات، وهذا برأيي لا يحتاج إلى علوم نفسيّة واجتماعيّة، وإنما يحتاج إلى حراك سياسيّ واقتصاديّ حقيقيّ، ينتقل بالمجتمع والبيئات المحليّة من عتبات الفقر والعوز نحو مستوى معيشة أفضل يحفظ الكرامة الإنسانية للسوريّين، ويوفّر تعليماً جيّداً، وطبابة جيّدة، وفرص عمل جيّدة،عندها تلقائيّاً سيتغير وعي الناس وستنحاز إلى ما هو أفضل لحياتها وحياة أولادها، لا يمكن ولا حتى ل"نبي مُنْزَل" أن يغير وعي إنسان جائع، ومريض، ومشرّد، قبل أن يشبع معدته ويجد علاجاً لمرضه ومكان لائق يسكنه، وكلّ ما عدا ذلك سيكون تنظيراً فحسب.

 أمّا المشكلات الأخرى فكلّها نتائج وليست مقدمات، كتأثير ونتاج للحرب وتبعاتها والكوارث الطبيعية...ووالخ، لذلك، فالمطلوب من كلّ سوريّ القيام بما يستطيع لتغيير واقع معيشة الناس، وإيجاد فرص معيشة أفضل، وهذا لا يتم إلا بتغيير منظومات الحكم القائمة اليوم في البلد من بابها إلى محرابها، وكلّ ما بعد ذلك يأتي لاحقاً ويمكن مناقشته والعمل عليه مطوّلاً.

نحن نحتاج إلى التنمية بمفهومها الشامل، ولا نحتاج إلى نظريّات في علم النفس أو علم الاجتماع ستأتي كتحصيل حاصل بعد توفير التنمية، والطبقات الحاكمة اليوم في سوريا لا يُمكنها أن تكون خياراً صالحاً لتحقيق هذه التنمية.

- في ظلّ التحوّلات الرقمية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعيّ، كيف ترين تأثير هذه العوامل على النقد الأدبيّ؟ وهل يمكن اعتبار النقد الرقميّ بديلاً عن النقد التقليديّ؟

 كما كل شيء في الحياة، لا يُمكن لشيء أن يلغي شيئاً آخر شبيهاً به، بل يبني عليه، ويتطوّر، والتطوّر الرقمي طوّر من الأدوات وغيّر من شكل الأوعية التي تحمل الفكر والأدب والعلم، ومن ضمن ذلك النقد الأدبي، وعمل على نشره بشكل أوسع، وأعتقد هذا لصالح المعرفة الإنسانيّة بمعناها الواسع، بما تشمله من آداب، وفنون، وعلوم ومعارف عامة، ولا يُشكّل النقد الرقمي بديلاً عن النقد التقليدي، وإنّما هو تطوير لأدوات وآليات وأساليب النقد، وتوسيع لآفاقه، وتسريع لزمن وصوله، وتوسيع قاعدته من المتلقين.

منذ عام ونصف تقريباً قدمت بحث في ندوة عن الفن التشكيلي الرقميّ خلال إحدى الفعاليات الفنية في مدينة دبي، وكان يتطرق إلى النقد الفنيّ الرقمي، ويجيب عن سؤال بصدد النقد، وأنّه عليه أن يواكب التطوّرات التي حصلت في عالم الفن التشكيلي، ويستفيد من معارفه التقليدية ويطورها لتتناسب مع الفن المعاصر، وهذا برأيي ينطبق على الأدب وعموم الفنون والعلوم الإنسانيّة.

- هل هناك نوع معيّن من الأدب (مثل الرواية، الشعر، القصّة القصيرة) تجدين نفسك أكثر انجذابًا لتحليله ونقده؟ وما السبب وراء ذلك؟

لا يوجد جنس أو نوع معيّن من الآداب يجذبني أكثر من غيره، من حيث انجذابي إلى القراءة النقديّة، أو كتابة بحث أو مقال بهذا الصدد، أو حتى كتاباً كما أفعل أحياناً، فشغفي الأول هو شغف معرفيّ، ومن ثمّ جماليّ، وفنيّ تقنيّ، تجذبني النصوص التي تحمل سمات ورؤى جماليّة وفنيّة جديدة، وفارقة، ومدهشة -على قلّتها- فمثلاً لا تجذبني في الرواية حكايتها، فجميعاً لدينا حكايات لا نهائيّة لنرويها، لكنها ليست روايات أدبيّة، فما الذي يجعل من حكاية ما "رواية"، الأسلوب والطريقة الفنيّة والتقنيّة التي يقدّم بها الكاتب حكايته المعنيّة، فهذا ما يجذبني إلى الرواية مثلاً، وإضافة إلى الآداب أنا شغوفة جدّاً بالدراسات اللغويّة والدراسات الثقافيّة والتراثيّة، وبالفلسفة والعلوم النفسيّة الحديثة التي تربط بين البيولوجيا والفيزيولوجيا والسلوك الإنسانيّ، وأعتبر قراءتها متعة لا تُضاهى من حيث فائدتها معرفيّاً وعلمياًّ، وكتذوق فنّي عموماً أنا أحب الشعر، بكلّ أشكاله وأنماطه وقديمه وحديثه، بشرط جماليّ فقط، تخيّل كم سيكون شكل الحياة بائساً من دون وجود الشعر، ففي كل وقت أتعب فيه أو أحتاج إلى راحة نفسيّة أقرأ أو أسمغ شعراً، عربيّاً وعالميّاً، وهذا كمتعة وتذوّق جماليّ، فالشعر بالنسبة لي هو موسيقا الحياة، لكنه لا يجذبني لأقوم بإنجاز قراءة نقديّة أكثر من غيره من الأجناس الأدبّية، يجب أن أقرأ أو أسمع شعراً ما كطقسٍ يوميّ. لتنتظم حياتي.

- كيف تؤثر خبرتك الأكاديميّة وتجاربك الشخصيّة على رؤيتك النقديّة؟ وهل ترين أن هناك علاقة بين الحياة الشخصيّة للناقد وتوجّهاته النقديّة؟

 أعتقد أنّ جوابي على هذا السؤال سيأتي بطريقة معكوسة ، أي أنّ النقد ومناهجه وخبرتي الأكاديمية والعلمية والنقدية..الخ، كل ذلك هو ما أثر ويؤثر على حياتي الشخصيّة، ولا أعتقد أنّ حياتي الشخصية بأيّ من مفرداتها قد أثرّت على أيّ من رؤاي النقدية والعلمية إذا قمنا باستثناء كوني شخصاً متمرّداً وناقداً من الصعب أن يعجب بأمر من دون تمحيص، وبهذا الصدد فإنّ ما حدث هوعكس عما يشير إليه السؤال، ساعدني عملي بالبحث العلمي على أن أكون موضوعيّة في تقييمي لمختلف الأمور في الحياة العامّة واليوميّات، وفي علاقاتي مع الناس، وساعدني النقد والمناهج العلميّة على ألا أقيم الآخرين، وألا أتسرع بالحكم عليهم، وأجد نفسي حتى في أبسط أمور حياتي أفكر بالأشياء بشكل منهجيّ ومنظّم، وغالباً ما أنحاز إلى الحقيقة والحقّ، ضد الزيف والباطل.

 أعتقد هناك فضل كبير للنقد ومناهجه وللعلم وأدواته على الحياة الشخصيّة لأي كاتب، وناقد وأكاديمي، لأنك بهذه الخبرات تتسلّح بالموضوعية، والتفكير النقديّ السليم، وتنبذ التعصّب، وتنحو منحىً إيجابيّاً من الأشياء،  وتنتظم حياتك وعلاقتك بالآخرين بشكل أفضل، وأحياناً قد ينفر منك الآخر أو يكرهك لموضوعيتك وصراحتك، لأنّ الفكر النقدي يقلّل إلى الحد الأدنى من مجاملاتك للآخرين، ولكن بالنهاية ستبقى راضياً عن نفسك وعن ذاتك كلّما نظرت في المرآة.

وأخيراً: شكرا لك على هذا الحوار الجميل والأسئلة التي استنطقت كثير من الأمور التي لم أفكر بها منذ مدة طويلة.

الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).