الفنّان التشكيليّ فادي الحلبي، ابنُ محافظة السويداء في الجنوب السوريّ، المولودُ في مدينة الرياض عام 1977، والحاصلُ على شهادة البكالوريوس من كلّيّة الهندسة الكهربائيّة، هو كائنٌ شغفته عوالم الكاريكاتير حبّاً منذ نعومة أظفاره، فراح يستكشف فضاءاتها وأمداءها، منفتحاً على تجارب الساخرين الأعمق أثراً، وعلى وجه الخصوص الكاتب التركيّ عزيز نيسين، والكاتب المصريّ محمود السعدني.
فادي الذي عصفت بوجدانه المأساة السوريّة، انحاز إلى جانب الذين راكمت المأساةُ شقاءهم، فكانت رسومه تواكب معاناتهم، وتتكلّم بلسان حالهم. في هذا الحوار الذي يأتي ضمن سلسلة حوارات موقع "هلات" مع المبدعين السوريّين، يفتح فادي الحلبي نافذةً على رحلته الفنّيّة منذ بداية الشغف، وصولاً إلى تأسيس مرسمه الخاصّ عام 2014. يتناول الحوار قضايا متنوّعة، مثل تطوّر مفهوم الكاريكاتير في تجربته، وكيف أثّرت خلفيّته الهندسيّة على أسلوبه الفنّيّ، إضافةً إلى التحدّيات التي واجهها في المجتمع السوريّ.
نستكشف معه في هذا الحديث رؤيته الفارقة والعميقة للفنّ، وكيف يرى دوره في تغيير الوعي الجمعيّ وتعميم الشعور بالجمال، إضافةً إلى نظرته الخاصّة للعلاقة بين الفنّان والمتلقّي في العمليّة الإبداعيّة. هيّا بنا إلى الحوار!
لو أردت أن تضع تعريفاً لفنّ الكاريكاتير، كيف تعرفه؟ وهل تغيّر مفهوم الكاريكاتير بالنسبة لفادي الحلبي منذ بداية تجربته وصولاً إلى هذه اللحظة؟
في الحقيقة، تبدو مسألة التعريف سهلةً عندما أتحدّث عن هذا الموضوع كشخص يمتهن هذا الفنّ وقد ألجأ إلى التعريف الأكاديميّ وأنتهي من المسألة برمّتها، فأقول إنّه فنٌّ ساخرٌ يوظّف الرسم والكلمات كأدواتٍ للتعبير، وعندها سأكتشف ـ كما سيكتشف أيّ فنّان آخر لو كان في مكاني ـ أنّ هذا التعريف، وعلى الرغم من أنّه صحيح إلى حدٍّ بعيد، إلّا أنّ المسألة معقّدة أكثر من ذلك بكثير، وأنّ هذا التعريف لا يقول ما أشعر به حقيقة عندما يكون الكاريكاتير هو جزء من هويّتي، بل ربّما يكون أناي الأخرى.. لساني، أطرافي، عيني التي أرى عبرها هذا العالم، وهو ـ إضافة إلى ذلك ـ الوسيلة التي أصرخ بها في وجه العالم لأقول : أنا هنا، على الرغم من أنّ محاولاتي في الكاريكاتير بدأت في فترة مبكّرة جداً، بل حتّى قبل أن أفكّر في المجال الذي ينبغي لي التخصّص به، لكن، ربّما كانت من المفارقات الطريفة إنّ الفشل في المجال الهندسي كان أحد أهمّ الدوافع التي قادتني إلى التخصّص في مجال الكريكاتير ، وبعيداً عن تجربتي، لا شكّ أنّ هناك تداخلات وتقاطعات فارقة بين الرسم والهندسة وهي تقاطعات مثيرة للاهتمام، كما أنّ هناك تداخلات بين الرسم وبقيّة العلوم.
فإنّك حين تتحدث عن الكتلة والنسب والمنظور والتشريح ومسقط الضوء والظلّ، لا تنحصر معرفتك بالرسم فحسب، كما أنّه من المفيد أن تعرف عن الخواص الفيزيائية للحركة مثلا ، وكيمياء اللون فتجد أن معظم الفنانين القدماء كانوا مهندسين أو كيميائين أو أطبّاء .
هل تعتقد بأنّ وظيفة فنّان الكاريكاتير هي أن يضيف على مستوى الشكل أو الفكرة ؟ أم ينبغي له أن يكتفي بكونه معبّراً وصاحب حرفة ؟ وهل يستطيع الفناّن إدراك أنّه قدّم إضافة ما، أم أنّه يقول ما عنده والإضافة هي من تبرهن نفسها من خلال المتلقّي أو الناقد؟
هذا السؤال يحمل العديد من المحاور المهمّة، إذ إنّه ينبغي لنا أن نسأل أنفسنا:
هل هناك أصلاً وظيفة للفنّ؟ وإذا كانت له وظيفة فما هي؟ ومن هو الذي يحدد هذا الأمر؟ التاريخ ام المستقبل؟ الفنان أم المتلقّي؟ ثمّ تأتي معضلة الحاجة .. هل نحن بحاجةٍ إلى الخبز أوّلاً أم إلى الفنّ؟ لأنّ السؤال في مضمونه يحمل مسألة مرتبطة بفكرة المجتمع عن التطوّر، وبالتالي فإنّ مقياس الإضافة هو الجمهور، وطالما أنّ الجمهور يعتبر الإضافة مرتبطةٌ بالحاجة، فأنت (كفنّان كاريكاتير) لن تتمكّن من أن تلمس ذلك مهما تطوّر الأسلوب الفني أو نضجت الأفكار، من عجائب الاسئلة يا صديقي التي يمكن أن تتلقّاها في مجتمعنا هو السؤال التالي :"الرسم بيطعمي خبز؟" أي أنّ مسالة التطوّر مرتبطة أصلاً بالخبز في عقليّة الجمهور، مع ذلك يمكن القول إنّه في لحظات ما، ومن خلال قضايا ما، يستطيع فنّان الكاريكاتير أن يدير وجه الجمهور - ولو لبضع دقائق - عن النظر إلى مسألة الحاجة والتفكير بالمستقبل، ربّما يرى شخص يعيش في بقعة جغرافيّة مختلفة، بقعة ليس لدى سكّانها المعاناة ذاتها أنّ ما أقوله يعتبر مبالغة، وهذا طبيعيّ، لذلك قلت أنّ مسالة شعورك بالإضافة هي مسألة في مضمونها مرتبطة بالجمهور، أمّا عن مسألة الناقد والتي نفتقد إليها بشكل كبير، أعتقد أنّها مسألة مهمّة جدّاً، ومغيّبة عن مجتمعنا بشكلٍ واضح.
هناك شبه إجماعٍ على أنّ المتلقّي هو شريك في العملية الإبداعيّة، وقد تتعدّد الآراء التي تشرح هذه المقولة، من وجهة نظرك كفناّن تشكيليّ، كيف ترى المتلقّي شريكاً في العمليّة الإبداعيّة ؟
لا شكّ أنّ المتلقي هو شريك في العملية الإبداعية، وهذا ينطبق على الكاريكاتير بشكل خاصّ، بالتالي، يمكن القول إنّ المتلقّي ليس مشاهداً فحسب، بل هو جزء جوهريّ من العمليّة الإبداعيّة، وكما قلت سابقاً، إنّ المتلقي هو مقياس لتطوّر حالة الفنّان، لكنّ هذا القول لا يستقيم إلّا عندما تكون لدى الفنّان قضيّةً أو مشروعاً، عندها يصبح المتلقّي شريكاً في المعاناة نفسها، والقضية نفسها، وقد يضيف إلى العمل الفنّي معانٍ جديدةٍ وتفسيراً مغايراً. بل قد يعثر المتلقّي على رسائل مختلفة عما قصده الفنّان . هذا التفسير يثري العمل ويجعله أكثر عمقاً ، بالإضافة إلى أنّ التفاعل يمكن أن يشكّل مصدر إلهام لأعمال جديدة ،أما في حالة البحث عن الشعبوية فالمتلقّي هو شريكٌ "مضارب" أي شريك في الأرباح فقط، أمّا الخسارة، فإنّ الفنّان وحده هو من ينبغي له تحمّل تبعاتها.
هل يمكنك أن تحدّثنا عن الأثر التراكميّ لدور الفنّ في تطوّر المنجز الحضاري والمدني في حياة الإنسان؟ كيف يستطيع الفنّ تغيير الوعي الجمعيّ وتعميم الشعور بالجمال؟
أعتقد أنّ الفنّ بحدّ ذاته هو المنجز الحضاريّ للإنسان، فما نعتقد أنّه منجز حضاري هو تلك التداعيات التي مزجت الخيال بالمعرفة، لكن إذا كان المقصود هو تأثير الفنّ بالوعي الجمعيّ ومفاهيم الجمال فنحن ببساطة أمام لغة بشريّة مشتركة تتجاوز الحدود والتجمّعات والثقافات المختلفة، فمثلاً، عندما نتحدث عن العدالة الاجتماعيّة وحقوق الإنسان، تستذكر لوحة “موت مارات” لجاك لوي ديفيد: تصوير لحظة مقتل الزعيم الثوري جان بول مارات التي أصبحت قطعة دعائيّة سياسيّة مؤثّرة وعندما نتحدّث عن التجارب النفسيّة والعلميّة، تجد لوحة "لاس مينيناس" لدييغو فيلاسكيز: هذه اللوحة التي تثير أسئلة معقّدة حول وجهة النظر وتفاعل المشاهد مع اللوحة. والتي ألهمت الكثير من الفنّانين، بما في ذلك بيكاسو أو حتّى عندما نتحدث عن الطبّ وعلم التشريح ،تجد دراسات ليوناردو دا فينشي للجسم البشريّ: هذه الرسومات الأناتوميّة التي أجراها ليوناردو من خلال تشريح حقيقيّ غير مألوف سوى عند الأطباء، غيرت طريقة دراسة الجسم البشريّ للفنّانين والعلماء، وحتّى عندما نتحدّث عن توثيق التاريخ والثقافة والتراث، أو عندما تحاول أن تعرف كيف يمكنك أن تظهر هويّة خاصّة مختلفة، فأنت اليوم تشاهد رسومات (كهوف لاسكو) هذه الرسومات الجداريّة التي رُسِمَتْ قبل 17,000 عام. هذه الأعمال وغيرها الكثير مما لا سبيل لإحصاءه وذكره في هذه العجالة تجسد تأثير الفنّ على الإنسان والثقافة والتاريخ وتظهر قوّة الفنّ في تغيير الوعي الجمعي.
من وجهة نظرك، هل تعتقد أنّه ينبغي للفنان التشكيليّ أن يستمرّ في الإنتاج حتّى النهاية؟ أم أنّ هناك لحظة يجب على الفنّان يتوقف عندها عن ممارسة الرسم حين يشعر أنّه قال كل ما يستطيع قوله؟
يمكن القول إنّ الفنان في صراع مستمرّ بين الرغبة في الإبداع من جهة، والحاجة إلى التوقّف من جهة أخرى، أو دعنا نقول الحاجة إلى الاستسلام، فهناك لحظات تجعله يشعر أنّه قال كل ما يستطيع قوله، وهناك لحظات تجعله يائساً من محاولة التغيير أو التأثير، ولكنّ العجيب في الأمر أنّه حتّى هذه اللحظات والتناقضات التي يعيشها الفنّان تعتبر جزءاً من العمليّة الإبداعيّة، وكلّما بدا لك الأمر وكأنّك ملهماً للآخرين، ومؤثراً في المجتمع، كلّما اشتدّ ذلك الصراع وألقى مزيداً من العبء على كاهلك .. وعلى الرغم من كلّ شيءٍ، فإنّ الفنان يجد نفسه مدفوعاً إلى أن يستمرّ حتّى النهاية؛ لأن النهاية في عقله هي التوقف بحدّ ذاته .
كيف أثّرت خلفيّتك الهندسيّة على أسلوبك في فنّ الكاريكاتير؟ وهل ترى أنّ هناك تداخلاً بين الهندسة والفنّ في تجربتك؟
مع أنّ محاولاتي في الكاريكاتير كانت مبكّرة جداً، حتّى قبل التفكير في مجال التخصّص، لكن، ربّما من المفارقات الطريفة إنّ فشلي في المجال الهندسيّ، كان أحد أهمّ الدوافع وراء محاولة التخصّص في مجال الكاريكاتير، وبعيداً عن تجربتي الشخصيّة، لا شكّ أنّ هناك تداخلات وتقاطعات فارقة بين الرسم والهندسة ومثيرة للاهتمام، كما أنّ هناك تداخلات بين الرسم وبقية العلوم.
فأنت تتحدّث عن الكتلة والنسب والمنظور والتشريح ومسقط الضوء والظلّ، كما أنّه من المفيد أن تتعرّف على الخواص الفيزيائية للحركة مثلاً ، وكيمياء اللون كذلك، فتجد أن معظم الفنّانين القدماء كانوا مهندسين أو كيميائيّين أو أطبّاء .
ما هي أكبر التحدّيات التي واجهتك عندما بدأت بتأسيس مرسمك الخاصّ عام 2014؟ وكيف ساهم هذا المرسم في تطوّر مسيرتك الفنّيّة؟
لا شكّ أنّ المرسم كان نقطة تحوّل فارقة، كما أنّه شكّل حالةً من الوعي الذاتيّ لفكرة أن تقف أنت واللوحة فجأة على ضفّةٍ واحدة وجها لوجه قبالة المجتمع، في تحدّ حقيقيٍّ، واختبار لذاتك، ولقدرتك على تقديم نفسك، ومحاولة صوغ تجربة فنيّة جيّدة، هذا التحدّي الذي اعتقدتُ في البداية أنّه حالةٌ مؤقتةٌ ستنتهي بمرور الوقت، غدوتُ أدركُ اليوم، وبعد قرابة عشر سنواتٍ من المكابدة، أنّه ما يزال في بدايته، وأنّ الطريق طويلٌ وشاقٌّ إذا أردتُ الوصول إلى خلق تجربة فنيّة مختلفة.
كيف ترى دور المعارض الفرديّة والجماعيّة في تعزيز حضورك الفنّي؟ وهل تفضّل المشاركة في نوع معيّن من المعارض؟
ما زلتُ أتذكّر المعرض الجماعيّ الأوّل الذي شاركت فيه؛ كان من حسن حظّي وجود نخبةٍ من فنّاني محافظتي الكبار، أتذكّر كيف كانت الحوارات تدور حول اللوحات والمدارس الفنية وأنا ـ كما يقول المثل الشعبيّ: ( مثل الأطرش بالزفة )، فقد كانت معلوماتي الفنيّة ـ في ذلك الوقت ـ متواضعةً جدّاً مقارنة بالفنّانين أصحاب الخبرة، بعد المعرض، وفي نهاية ذلك العام تحديداً، كنت قد قرأت أكثر من مئة كتاب تخصّصيّ عن الفنّ، بالإضافة إلى أنّني رحتُ أشاهد مئات اللوحات العالميّة المتميّزة بعين الدارس. ما أريد قوله إنّ المعارض يمكن أن تكون تجربةً غنيّةً ودافعاً حيويّاً للتطوّر إذا كان الفنّان مستعدّاً لذلك، ويمكن أن تكون مجرّد مناسبة لالتقاط الصور. أعتقد أنّني شاركت بعد ذلك في الكثير من المعارض الجماعيّة، وكانت في معظمها تجارب مفيدة جدّاً على الصعيد المعرفيّ والنقديّ، لكنّ طموحي اليوم هو دخول تجربة المعرض الفرديّ، أتوقع أنّ ذلك سيتمّ قريباً.
كيف تجعل رسومك قادرة على قول ما تحمله أفكارك من رسائلَ في ظلّ الرقابة والقيود التي يفرضها المجتمع على الفنّانين والكتّاب ؟
في عقل الفنّان، وخصوصاً في عقل فنّان الكاريكاتير، لايوجد ما يسمّى خطوطٌ حمراء، لكن، في الوقت ذاته على الفنّان أن يدرك وجود الكثير من الخطوط الحمراء في عقل المتلقّي، أيّا يكن هذا المتلقّي، سواءً أكان السلطة التي تقمع الحرّيّات الفرديّة عموماً أو حرّيّة الرأي خصوصاً، أو المجتمع بما يحمل من تعقيداتٍ قبليّة، أضف إلى ذلك أنّ تجربة فنّ الكاريكاتير، هي ـ قبل كلّ شيء ـ تجربةٌ كلاسيكيّةٌ لم تدخل فيها مدارس مختلفة كالمدرسة النصّية التي تعتمد على السخرية بالنصّ أكثر من الصورة، أو الرسوم التوضيحيّة التي تعتمد على نقل المشهد بشكل مباشر، أو المدارس الحديثة التي قد تذهب بالسخرية إلى حدّها الأقصى. كلّ ذلك جعل العمل أشبه بحقلٍ مزروعٍ بالألغام، .لكن كيف تجاوزت كلّ ذلك؟ ببساطة أنا لم افعل، أعترف أنّ الكثير من الألغام انفجرت في طريقي، فأنت تشعر اليوم بالخطر يترصّدك في كلّ شيء، المعيار الوحيد الذي أدّعي أنّني حافظت عليه في معظم أعمالي هو النزاهة
هل هناك موضوعاتٌ أو قضايا معيّنةٌ تجد في نفسك رغبةً دائمةً بالعودة إليها في أعمالك الفنّيّة؟ وما الذي يدفعك إلى الاستمرار في تناول هذه الموضوعات؟
لا شكّ أنّ الفنّ هو وسيلة قويّة للتعبير والتأثير، بل وحتّى التغيير، دعنا نقول إنّ الكاريكاتير هو مشروعٌ للتغيير لكنّ المسألة السوريّة هي قضيّة ومسألة وجود ، لذلك لا يمكن للمشروع الحقيقيّ أن ينجح بمعزل عن قضيّة هو بشكل ما جزء منها، فأنت بالمعنى العميق للكلام، لا تستطيع العودة إلى تلك القضيّة؛ لأنّك في حقيقة الأمر لم تخرج منها ، أنا مؤمن بفكرة أنّ التغيير السياسيّ والاجتماعيّ يحتاج قبل كل شيءٍ إلى تغيير الخيال السياسيّ والاجتماعيّ، قد يبدو مصطلح الخيال غريباً لكنّه حقيقيّ، فأنت لن تعمل إذا كنت لا تعتقد في خيالك أنك لن تحدث فرقاً حتى لو كان طفيفاً، هذا الخيال هو أيضا ما يدفعني إلى الاستمرار كأيّ حالمٍ بعالمٍ أفضل
0 تعليقات