الهندسة كعلاج: إعادة الأمل للسوريين من خلال التخطيط العمراني
بعد سقوط نظام الأسد الذي تسبب في دمار هائل للمدن السورية وهدم البيوت باستخدام البراميل المتفجرة، تواجه سوريا اليوم مرحلة مهمة من إعادة الإعمار. السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يمكن تحقيق إعادة إعمار شاملة ومستدامة؟ فلا يقتصر الأمر على توفير التمويل اللازم، بل يتطلب تبني رؤية متكاملة تساهم في معالجة آثار الحرب النفسية والاجتماعية، وتضع أسساً لمستقبل أفضل للشعب السوري.
يمكن أن يلعب التخطيط العمراني دوراً مفصلياً في تعزيز التعافي النفسي للسوريين بعد الحرب. على سبيل المثال، تقلّل المساحات الخضراء المفتوحة من التوتر والاكتئاب، وتوفر بيئة آمنة للترفيه والتواصل الاجتماعي. كما أن تصميم أحياء مع حدائق عامة ومسارات للمشي يمكن أن يشجع السكان على التفاعل مع الطبيعة، ويساعدهم في تقليل الضغط النفسي. ولا يخفى على أحد أن المباني ذات النوافذ الكبيرة تسمح بدخول الضوء الطبيعي، وتساعد في تحسين المزاج وتقليل الشعور بالعزلة. ومن المهم تخصيص مساحات للأطفال مثل الملاعب الآمنة التي تعيد لهم شعور الأمان الطبيعي الذي افتقدوه خلال الحرب، ويساعدهم على التعبير عن أنفسهم والتخلص من التوتر. ربما أسوأ تصوّر للشكل العمراني في سوريا هو بناء الأبراج العالية المغلقة التي تعزل الأفراد عن بعضهم، وتمنعهم من بناء روابط اجتماعية حقيقية.
ثمة مدارس سيكولوجية تستخدم البيئة كجزء من العلاج، من بينها طريقة "العلاج بالبيئة" التي تركّز على تحسين الصحة النفسية من خلال التفاعل مع الطبيعة والمساحات المفتوحة، حيث يتم تصميم حدائق عامة مثل مشروع "Healing Gardens" (حدائق الشفاء) في الولايات المتحدة لدعم تعافي المرضى نفسياً وجسدياً. ويبحث علم النفس البيئي في تأثير البيئة المبنية على الحالة النفسية، ويوصي بتصميم المباني المريحة عبر زيادة الإضاءة الطبيعية، واستخدام الألوان الدافئة، وإدخال العناصر الطبيعية في التصاميم. من جهة أخرى، يعتمد "العلاج بالتصميم" على إنشاء مساحات تُحفّز المشاعر الإيجابية، مثل غرف التأمل أوالعبادة أو ممارسة الفنون الموسيقية أو التشكيلية والمساحات المفتوحة التي تفيض بالضوء والنباتات، وهو ما يظهر جلياً في مستشفى (Maggie’s Centres) في المملكة المتحدة، التي تهدف إلى دعم مرضى السرطان نفسياً وجسدياً عبر تصميم معماري إنساني.
أشهر الاضطرابات النفسية بعد الحروب
من المؤكد أن الشعب السوري الذي عاش تجارب مريرة على مدار 13 عاماً، يواجه مجموعة من الأمراض النفسية الناتجة عن التوتر المستمر، وفقدان الأحبة والأموال، والنزوح، والدمار. من بين أكثر الاضطرابات شيوعاً التي يمكن أن تظهر على السوريين بحسب مصادر عديدة، "اضطراب ما بعد الصدمة"، حيث يعاني الناجون من ذكريات مؤلمة متكررة، كوابيس، وتجنب الأماكن المرتبطة بالأحداث الصادمة، ما يؤدي إلى شعور دائم لديهم بالعزلة والخوف. إلى جانب ذلك، ينتشر "الاكتئاب" بشكل كبير نتيجة فقدان الأمان والأحباء، ويصحبه شعور مستمر بالحزن والإرهاق العاطفي، وقد يؤدي إلى الانتحار إذا لم يتم التدخل المناسب. كما يظهر "القلق المزمن" لدى الكثيرين بسبب التوتر المتواصل وعدم اليقين بالمستقبل، ويتجلى في أعراض جسدية مثل تسارع ضربات القلب وصعوبة التنفس.
إلى جانب هذه الاضطرابات، يعاني الناجون من "اضطرابات النوم" مثل الأرق والكوابيس المتكررة. بعض الأشخاص يواجهون "اضطرابات الهوية والانفصال"، حيث يشعرون بفقدان التواصل مع الذات أو المجتمع، بينما يظهر لدى الأطفال والشباب "العنف السلوكي" كنتيجة للتجارب الصادمة، وهذا يؤدي إلى صعوبة في التكيف مع الحياة اليومية. كما أن شعور "الذنب بالنجاة" يثقل كاهل العديد من الناجين، حيث يشعرون بالذنب لبقائهم على قيد الحياة بينما رحل الأحباء. كما تبرز اضطرابات التكيف بسبب صعوبة التأقلم مع الظروف الجديدة مثل النزوح، إلى جانب "صدمة الأجيال" التي تنتقل آثارها إلى الأجيال القادمة عبر التربية. أخيراً، يلجأ البعض إلى "الإدمان" كوسيلة للهروب من الألم النفسي، ما يضيف أعباءً إضافية على الصحة النفسية والاجتماعية.
الاستفادة من التجارب الدولية
الاهتمام بالتصميم المستدام يعد من أهم الجوانب التي يجب أن تركز عليها سوريا في مرحلة إعادة الإعمار، ولا بد من استخدام تقنيات مثل الطاقة الشمسية، أنظمة إدارة المياه، والزراعة الحضرية بشكل يقلل من التكاليف ويحافظ على الموارد الطبيعية. إذا لم يتم التخطيط بعناية في المرحلة المقبلة، قد تتحول إعادة الإعمار إلى فرصة لشركات البناء لتحقيق أرباح سريعة على حساب المصلحة العامة؛ فالبناء العشوائي والتجاري، الذي يفتقر إلى التناسق مع البيئة السورية، يشكل خطراً على الهوية العمرانية وعلى السكان أنفسهم.
من الممكن أن تستفيد سوريا من أفكار وتجارب دول مرّت بظروف مشابهة. ففي ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، أعيد بناء مدن كبرى مثل برلين ودريسدن بأسلوب يعزز الشعور بالاستقرار والانتماء، من خلال تصميم أحياء تحتوي على مساحات خضراء وحدائق عامة وممرات للمشاة، كما في مشروع "Hansaviertel" في برلين، الذي جمع بين الحداثة ومراعاة الجوانب الإنسانية. في اليابان، ركزت عملية إعادة الإعمار على المساحات المفتوحة والبنية التحتية المقاومة للكوارث، وتحولت المناطق المتضررة في هيروشيما إلى متنزهات وحدائق للسلام، مثل حديقة السلام التذكارية، التي أصبحت رمزاً للأمل والتعافي. بعد الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، تم بناء قرى نموذجية تُعرف بـ (Imidugudu)، صُممت لتعزيز الروابط الاجتماعية بين الناجين من خلال مساحات مشتركة وأماكن مجتمعية. وفي البوسنة والهرسك، أعيد بناء المباني المدمرة في سراييفو بأسلوب حافظ على الهوية المعمارية، مع إضافة تحسينات مثل الشرفات المفتوحة والمساحات الخضراء المحيطة.
أمثلة مقترحة على نوعية البناء المناسب في سوريا
بيوت تعتمد على المواد المحلية: استخدام الحجارة المحلية والطين المضغوط في المناطق الريفية، بما يتناسب مع الطبيعة الجغرافية لكل منطقة، مثل الحجارة البازلتية في الجنوب والحجارة الكلسية في الشمال. هذا النوع من البناء يدمج بين الطابع التقليدي والاستدامة البيئية.
منازل منخفضة الارتفاع بباحات داخلية: المنازل ذات الساحات الداخلية المفتوحة (الفناء) تتماشى مع الطابع التقليدي السوري، وتوفر مساحات للتهوية والإضاءة الطبيعية، كما تسهم في تعزيز الخصوصية، وهي ميزة مهمة للسكان المحليين.
أبنية صغيرة بمجمعات سكنية متكاملة: إنشاء مجمعات سكنية صغيرة تحتوي على وحدات سكنية، ومساحات خضراء، وأسواق صغيرة، ومدارس، ومراكز صحية ضمن الحي نفسه، بما يضمن تلبية احتياجات السكان اليومية دون الحاجة إلى التنقل الطويل.
البيوت المقاومة للزلازل: في المناطق ذات النشاط الزلزالي المرتفع مثل الساحل السوري، يجب استخدام تقنيات بناء حديثة تضمن سلامة السكان، مثل الهياكل الخرسانية المرنة أو الخشب المعالج.
تصميم مرافق اجتماعية ومجتمعية: إنشاء مساحات مجتمعية مثل المكتبات العامة، مراكز الفنون، وأماكن تجمع كبار السن وتتيح لهم التفاعل الاجتماعي وتعزز الشعور بالانتماء.
إعادة الإعمار في سوريا هي فرصة لترميم نسيج المجتمع السوري المتهالك. وينبغي أن يعكس التخطيط العمراني جمال سوريا الطبيعي، وتاريخها العريق، ويكون قادراً على توفير بيئة صحية ومستدامة تسهم في التعافي النفسي للسوريين. هذه المهمة هي خطوة محورية لبناء أمل جديد للأجيال القادمة، وهي وسيلة لشفاء الجروح وإعادة الحياة إلى وطن مزقته الحرب.
0 تعليقات