هل يمكن أن تحيا القضايا العادلة بالصخب وحده؟ وهل يكفي أن تكون القضية عادلة ليقتنع بها الناس؟ كيف يمكن للمدافعين عن القضايا أن يصبحوا أصواتاً مؤثّرة تُقنع الآخرين بحججهم؟ ماذا عن الإعلام، هل يستطيع أن يساهم في تعزيز الوعي حول القضايا العادلة أم يتحوّل إلى مجرد ساحة للصراعات والتشويش؟ وكيف يمكن للإعلام الكردي الناطق بالعربية أن يستعيد دوره الحيويّ في نقل الحقيقة والدفاع عن القضايا الكردية؟

من البديهيّ القول إنّ القضايا العادلة تحتاج إلى وعي للدفاع عنها، إلى تبنّيها عن قناعة وترويجها برؤية واقعية ومدروسة. ولا يكفي أن تكون القضية عادلة بحدّ ذاتها، بل لا بدّ من أن يكون المدافعون عنها مجهّزين بالعلم والمعرفة، مسلّحين بالحجج والبراهين لا مجرّد صناّع ضجيج وجلبة. فالضجيج قد يلفت الأنظار للحظات، لكنّه لا يقنع أحداً بعدالة القضية، بل قد ينفّر المتابعين ويعزز الأحكام المسبقة التي تؤدّي إلى الفشل. ومن هنا تأتي ضرورة التركيز على بناء أشخاص قادرين على أن يصبحوا سفراء لقضاياهم، أولئك الذين يعرفون متى وكيف يتحدثون، والذين يمكنهم مدّ الجسور بين قضاياهم ومحيطهم.

يتعيّن على المدافعين عن القضايا العادلة تطوير أدوات خطابهم لتصبح أكثر إقناعاً واستقطاباً، لأنّ العصر الذي نعيشه لا يرحم الأصوات التي تتحدّث بلا ترتيب أو تخطيط. العالم اليوم يزخر بوسائل التواصل والتفاعل، لكن هذه الوسائل نفسها قد تتحوّل إلى ساحة للمناوشة والتشويش والتشويه، إذا لم يكن الخطاب مدروساً وواعياً. لذا، يجب على من يتبنى قضية عادلة أن يدرك أنّ الناس لا يستجيبون للصخب بقدر ما يستجيبون للحجّة الدامغة والمعلومة الدقيقة.

في الحالة الكردية، نلاحظ أنّ الإعلام يمثّل ركيزة أساسية لتحقيق هذا الوعي المطلوب. لكن للأسف، الإعلام الكردي، وبخاصة ذلك الموجه باللغة العربية، لا يزال يعاني من التشتت والتباين، وفي بعض الأحيان من الضبابية في الرسالة والمحتوى. الإعلام الذي يُفترض به أن يكون صوتاً للحقّ، وأن يحمل القضايا العادلة إلى مسامع الآخرين، أصبح في كثير من الأحيان غارقاً في الصراعات الداخلية أو التنافسات الضيّقة، مبتعداً عن دوره الأساسيّ في بلورة الوعي.

يمكن للإعلام أن يساهم في إعادة تشكيل الرأي العام، بل ويقوده نحو وجهات نظر جديدة تماماً. لكن هذا الدور لا يتحقّق إلا إذا كان الإعلام نفسه مبنياً على أسس صلبة، قائمة على النزاهة، والشفافية، والتواصل المتين مع الحقائق.

غيابُ الإعلام الكرديّ الموجّه باللغة العربية عن الساحة بشكل فعّال يترك فراغاً يمكن أن تستغلّه الأطراف المعادية لتشويه الصورة أو تحريف الحقائق. ولهذا، لا بدّ من بناء إعلام يتمتع بمقوّمات الاستدامة والتأثير الحقيقي، بعيداً عن المشاحنات الحزبية أو الخطابات العاطفية الجوفاء.

المسؤولية الإعلامية هي مسؤولية تاريخية تتطلب بناء وعي حول القضية الكردية. هذا الوعي لا يمكن أن يكون مقتصراً على اللغة الكردية فحسب، فالجمهور الأكبر في العالم العربي لا يزال بحاجة إلى معرفة الحقيقة حول القضايا الكردية من خلال اللغة التي يفهمها ويتفاعل معها. ولكن كيف يمكن لهذا الإعلام، بتركيبته الحالية التي تعاني من القصور والتفكّك، أن يؤدّي دوره كما يجب؟

الإعلام الكردي الناطق بالعربية يعاني من تحديات كثيرة. إحدى أبرز هذه التحديات هي مشكلة الانقسام الفكري والسياسي التي تضرب المؤسسات الإعلامية وتضعف من مصداقيتها وتأثيرها. فالخطاب الإعلامي قد ينحاز لطرف أو حزب معين على حساب الحقيقة، مما يُفقده القيمة التنويرية التي يفترض أن يحملها.

إلى جانب الانقسام، يعاني الإعلام الكرديّ من عدم وجود استراتيجية واضحة للنهوض بالمستوى التحريريّ والمحتوى الإعلاميّ، وهو في صورته الحالية يحتاج إلى إعادة هيكلة تشمل تحسين المهارات الإعلامية للصحفيين، وزيادة فهمهم للجمهور المستهدف.

يضاف إلى ذلك أنّ هذا الإعلام غالباً ما يفتقد إلى الحرفية والمهنية في التناول. كثير من المحتوى الإعلامي الموجه باللغة العربية يعاني من الارتجال أو نقص العمق في الطرح، ممّا يؤدي إلى إنتاج محتوى سطحيّ لا يجذب المتابعين ولا يثير حواراً مثمراً حول القضايا الكردية. هذا النقص في الحرفية يقوّض من جهود بناء جسور التفاهم مع المحيط العربي، ويزيد من العزلة الإعلامية التي يعاني منها المجتمع الكرديّ.

في ظلّ هذا الواقع، يبدو أنّ تطوير الإعلام الكردي الناطق بالعربية يجب أن يكون على قائمة الأولويات. هذا الإصلاح يجب أن ينطلق من إعادة النظر في التوجهات التحريرية للمؤسسات الإعلامية، والتركيز على رفع مستوى المهنية والحرفية. كما أنّه يتطلّب الاستفادة من الكفاءات الصحفية الكردية التي تمتلك القدرة على التواصل مع الجمهور العربي، مع تأكيد أنّ الإعلام أداة لتشكيل الوعي  ولا يقتصر على كونه وسيلة لنقل الأخبار فقط. كما أنّ الاستفادة من المنصّات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يفتح أبواباً جديدة للوصول إلى جمهور أوسع.

لا يخفى على أحد أنّ الإعلام هو أحد الأسلحة الأكثر فتكاً، في الحرب والسلم معاً، لكنّه سلاح لا يمكن أن يكون فعّالاً ما لم يُستخدم بوعي وحرفية. إذا تمّ استثمار الإعلام بشكل صحيح، يمكن أن يصبح قوة دافعة لتحقيق التغيير، لا مجرد وسيلة للتواصل. القضايا العادلة تستحقّ أن تُروى بصوت الحكمة لا زعيق الصخب، وبقوة الحجّة لا بافتعال الضجيج، لذلك فهي بحاجة إلى إعلام واعٍ، يعكس عمقها وأهمّيتها، ويقود الناس لفهمها والاقتناع بها. ولكي ينجح الإعلام الكردي الناطق بالعربية في تحقيق رسالته، لا بدّ أن يتجاوز العقبات الحالية، ويعيد صياغة أهدافه وتوجهاته ليصبح أكثر مصداقية وحضوراً وتأثيراً.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).