تبدو حكاية "صناعة النجوم" في سوريا التي كانت مزرعة الأسد لعقود، أقرب إلى ملهاة سوداء، حيث تفنّن التنظيم الحاكم في تحويل البلاد إلى مسرحٍ للعبث، ممسكاً بخيوط الدمى التي كان يحرّكها كما يشاء. ومن المعروف للسوريين أنّه لم يكن يتمّ تعيين أيّ مدير، مهما كان صغيراً، في أيّة زاويةٍ منسيّةٍ من البلاد من دون موافقة أمنيّة، ولم يكن يسمح لأيّ مخرج أو ممثّل بالتراقص أو الظهور أو التأوّه فنيّاً إلا إذا طأطأ رأسه أمام أجهزة التنظيم القمعيّة التي كان بيدها مفاتيح البلاد والعباد.
كانت "النجوميّة" في عهد الأسد أشبه بشهادة زور مصدّقة بختم مخابراتيّ، يمنحها لمن يجيد التطبيل والتصفيق والرقص على أشلاء وطنٍ يتهاوى. ومع ذلك، كانت هناك فئة قليلة من السوريين حاولت الابتعاد عن هذا الاستزلام، ورفضت أن تبيع نفسها لمصانع الولاء. هؤلاء قاوموا قدر استطاعتهم، وتمسّكوا بمبادئهم، لكن النتيجة كانت محزنة: حوربوا، همّشوا، وأقصوا. لم يُسمح لهم بالظهور أو التأثير، لأنّ تنظيم "النظام" رأى في استقلاليتهم تهديداً لسيطرته المطلقة.
وحين اندلعت الثورة، انقلبت المعادلة إلى حدّ ما. شاهدنا بعض "النجوم" الذين اعتادوا على التسبيح بحمد النظام يقفزون من السفينة الغارقة متّخذين مواقف مع الشعب السوريّ الثائر، ولم يكملوا أعمارهم في حراسة سجّانيهم وتشويه كلّ من جرؤ على الحلم. لا بأس في ذلك، قلنا حينها إنّ الثورة تجبّ ما قبلها...!
ولكن الصفاقة الكبرى، بعد سقوط "النظام" وهروب رئيسه من البلاد وتبدّل الوجوه، عادت "النجوميّة" لتأخذ شكلاً جديداً مقرفاً: نجوم التشبيح، أولئك الذين باركوا قتل السوريّين وقصف المدن واختلاق الأكاذيب، صاروا فجأة "محلّلين" و"مفكرين" على الشاشات. تراهم يتقمّصون دور الحكماء، يوزّعون النصائح على جمهورٍ مسحوق، يتحدثون عن "الوطنية" بلهجة المعلّم الموبَّخ، وكأنّ ذاكرتنا السورية المثقلة بالدمار قد مسحت سجلّاتهم.
هؤلاء "الأبطال" الذين يتباهون بماضيهم التشبيحيّ صاروا اليوم يتقافزون بين الشاشات كأنّهم زعماء مقاومة، يُعيدون صياغة أكاذيبهم بعباراتٍ ناعمة، بينما يتفنّنون في إلقاء دروس الأخلاق على شعبٍ لم يُسحق إلا لأنه بدأ يحلم بالحياة. صاروا يبرّرون إجرامهم السابق بمصطلحات جديدة، ويعتلون المنابر ليحدّثوا الشعب عمّا يجب أن يكون وكيف يجب أن يكونوا.
هذه السلوكيّات العبثيّة التي تُعرض بلا خجل تؤكّد لنا أنّ صناعة النجوم في سوريا، سواء كانوا ممثلين على خشبة المسرح أو في دهاليز القمع، لم تكن سوى انعكاس لثقافة الاستبداد: كلّ شيء تحت الطلب، والذاكرة تحت السيطرة، والمشاهدون مجبرون على التصفيق أو دفع الثمن.
النجومية لعبة خطيرة في ظلّ أنظمة القمع والجنون، تتأرجح بين نعمة القرب من السلطة ونقمة السقوط في براثنها. من لا يمرّ عبر أروقة المخابرات لا يصل إلى أضواء المسرح، ومن لا يسبّح بحمد النظام لا يجد مكاناً في الصورة. الجميع يجب أن يمرّ عبر بوابة الموافقة الأمنية، وإلا تحوّل إلى شخص مشكوك بأمره أو عدو محتمل.
تمثّلت فلسفة معمّر القذافي، الذي اخترع وحدة خاصة لمكافحة النجومية، في أنّ النجومية تهمة وامتياز، كأنّه قرّر أن يمنع أي كائن تحت راية جماهيريته العظمى من أن يتخطّى ظلال "القائد الملهم". فأيّ بريقٍ فرديّ كان يُعتبر تهديداً للسلطة، وأي نجاحٍ شخصيّ يُعدّ محاولةً مشبوهة للتمرد على "الجماهيرية"، التي لم يُسمح فيها إلا بنجمٍ واحد: القذافي ذاته، وكلّ من يجرؤ على منافسته في السطوع ينتهي به المطاف خلف القضبان أو تحت التراب.
يقيناً أنّ الذاكرة، مهما حاولوا إخضاعها، تبقى شاهداً حيّاً، تُسجّل ولا تُمحى. فمهما برع المتسلّقون في إعادة صياغة أدوارهم، ومهما تقنّنوا في التلاعب بالكلمات، يبقى الماضي حاضراً يفضح زيفهم. لن يستطيعوا إعادة كتابة التاريخ، ولن تنسى البلاد التي لطالما جعلوها مسرحاً لزيفهم، ولا الشعب الذي لطالما تاجروا باسمه.
ويبقى السؤال معلقاً: هل ستظلّ النجومية حكراً على أولئك الذين يُجيدون الانحناء؟ أم أنّها ستتحرّر يوماً لتصبح تجسيداً لحقيقة الإنسان وحرّيّته، بعيداً عن قبضة الطغاة وأقنعتهم الزائفة؟
0 تعليقات