هل حقاً هناك أحد ما، أو طرف ما، ينتصر في الحرب؟ ماذا عن الأرواح التي زهقت، المدن التي دُمّرت، الأحلام التي تبعثرت في الهواء؟ هل يُمكن أن يكون هناك نصر في عالم يُنهَك فيه الإنسان وتتلاشى فيه الإنسانية؟ من الذي يدفع الثمن الأكبر، ومن الذي يبقى منهزماً بشكل أفدح، حتى بعد إسدال ستار المعركة؟ ربما يعلن التاريخ فوز هذا الطرف أو ذاك، ولكن ماذا عن الآلاف من الأرواح التي زهقت؟ ماذا عن الأجيال التي تنشأ تحت وطأة الحزن والخسارة؟

هذه الأسئلة هي التي تطرحها علينا الحروب في كلّ مرة، لتتركنا في مواجهة حقيقة مرّة: لا أحد يربح، الكل يخسر، ولكن الهزيمة ليست متساوية. من الشهادات الإنسانية؛ شهادات ضحايا الحروب وخائضيها، ندرك أنّ الحرب لا تُفرّق بين أحد من الأطراف المتصارعة إلا من حيث حجم المعاناة. أحدهم يخرج بجروح أعمق، وآخر ربما يربح الأراضي أو النفوذ، لكنهما في النهاية يشتركان في الخسارة.

في الحرب، لا يوجد منتصر حقيقيّ، الجميع يخرج مهزوماً من الحرب، حتى المنتصر الذي يتفاخر بمكاسب مادية أو سياسية. يُهيّأ للبعض أنّ النصر يتحقّق عندما تتوقّف أصوات المدافع أو تسقط مدينة، ولكن في الحقيقة، ما يبقى بعد الحروب هو أنقاض إنسانية، وجروح لا تندمل في الروح قبل الجسد.

الهزيمة الفادحة تكون نصيب أولئك الذين فقدوا كلّ شيء، أولئك الذين شاهدوا بيوتهم تنهار وأحلامهم تتبدّد. هم مَن يبقون بلا مأوى ولا وطن، بلا أمل في الغد. الإنسان العادي الذي يقتلع من جذوره، الذي تراه يقف على حطام حياته محاولاً فهم العبثية المطلقة للحرب.

الحرب تحطم الروابط الإنسانية، وتزرع الكراهية في قلوب الشعوب، لتبقى الخسارة متوارثة عبر الأجيال. قد تُعيد الأطراف المتصارعة بناء كياناتها ودولها، لكن الروح الإنسانية تظل هشّةً ومنكسرة، غارقة في هزيمتها التي لا يُعلَن عنها، لكن تشعر بثقلها في كل خطوة يخطوها المنكوبون.

تقدم لنا الرواية تصوّراً عميقاً حول نتائج الحروب؛ وكيف أنّها تدمير شامل للإنسانية على كل المستويات.

في رواية "وداعاً للسلاح" للكاتب الأمريكي إرنست همنغواي، نرى بوضوح كيف صوّر الكاتب الحروب على أنها تجربة عبثية، لا يمكن أن تُنتج أي نصر حقيقي. بطل الرواية، الملازم فريدريك هنري، يهرب من الجبهة بعد أن يتعرض لخسائر نفسية وجسدية فادحة، ليكتشف أن الحرب لا تنتج سوى الخراب. في هذا السياق، يُعلّق همنغواي قائلاً: "في الحرب الحديثة، تموت كإنسان عبثاً"، مشيراً إلى أنه لا مكان للبطولات التي نتصوّرها عن الحروب، بل تراها سلسلة من المعاناة الإنسانية التي لا نهاية لها.

وربما يكون إريك ماريا ريمارك في روايته "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، قد قدم أحد أعظم تجسيدات الفاجعة التي تعصف بالإنسان خلال الحرب. في هذه الرواية، وصف ريمارك الجندي العائد من الحرب وهو فاقد للأمل والإحساس بالحياة، قائلاً: "لقد مات جيل بأكمله"، في إشارة إلى الأثر النفسي المدمر الذي تتركه الحرب على من يعيشها. ريمارك، الذي عاش الحرب العالمية الأولى بنفسه، يبيّن كيف أن الحروب لا تُنتج سوى أجيال محطمة، عاجزة عن العودة إلى حياتها الطبيعية حتى بعد انتهاء القتال.

يدين كلّ من همنغواي وريمارك، من خلال تجارب شخصياتهما، الحروب بوصفها جريمة ضد النفس البشرية وضدّ الحياة نفسها.

وعلى الرغم من اختلاف الروايات والتجارب، إلا أن هناك خيطاً مشتركاً يجمع بين الأدباء والمفكرين الذين كتبوا عن الحروب: الكلّ يُجمع على أن الحروب لا تحمل أي معنى للنصر. فعلى الرغم من انتهاء الحروب بتوقيع اتفاقيات أو احتلال أراضٍ، إلا أن الخسارة الحقيقية تكون في الأرواح التي لا يمكن استعادتها.

والهزيمة الأشدّ تقع على عاتق أولئك الذين يتعرضون للتدمير الشامل: المدن التي تمحوها القذائف، العائلات التي تفقد أحبائها، الشعوب التي يُكتب عليها النفي والتشريد. هؤلاء هم المنهزمون الأكبر في أي حرب. قد تعود الدول لتبني اقتصادها وجيوشها، لكن الأشخاص العاديين الذين خسروا حياتهم ومستقبلهم لا يعودون أبداً كما كانوا.

ولا يخفى أنّ إعادة بناء الجسور الاجتماعية والإنسانية تكون أصعب بكثير من إعادة بناء الجسور المدمّرة على الأرض. فالخسارة الكبرى هي خسارة القيم الإنسانية التي من المفترض أن توحّد البشر، لكنها تُنسى وسط ضجيج المعارك أو نداءات الثأر. وبهذا المعنى، الخسائر تمتدّ إلى ما هو أبعد من حدود المعركة؛ خسارة للأمل في مستقبل مشترك للجميع، وهذا هو التحدّي الأكبر بعد أن يهدأ أزيز الرصاص وتضع الحرب أوزارها... 


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).