هيثم حسين

لعلّ من المبكّر الحديث عن ملامح الحكم الجديد في سوريا في ظلّ تعقيدات المشهد الراهن، لكن هذا لا يعني أن نغضّ الطرف عن ضرورة طرح مخاوفنا وتصوّراتنا بشأن مستقبل بلدنا. اللحظة التي تقف فيها البلاد على أعتاب تغيير محتمل هي لحظة فارقة تتطلب من الجميع التفكير والمشاركة في صياغة رؤى واضحة للمستقبل، حتى لا يكون هذا المستقبل رهينة للمجهول أو ضحية لتكرار أخطاء الماضي.

والحديث عن المخاوف لا يعني التشاؤم أو التهويل، بل هو دعوة صريحة لاستباق السيناريوهات التي قد تُعيد إنتاج الاستبداد تحت مسميات مختلفة. فما وقع في دول عديدة شهدت تغييرات كبرى يُثبت أن غياب التصورات الواضحة يجعل الفراغ السياسي مجالاً خصباً لظهور قوى متطرفة أو نخبة انتهازية تتاجر بآمال الشعوب وتُحوّل أحلامها إلى كوابيس. سوريا، التي عانت طويلاً من التهميش والقهر والانقسام، تحتاج اليوم إلى نقاش مجتمعي صادق حول أسس الحكم الجديد الذي يمكن أن يحقق العدالة ويعيد للناس كرامتهم.

طرح التصورات خطوة أساسية في بناء مستقبل لا يتكرر فيه الماضي بكل أعبائه. والمخاوف من الحكم الجديد في سوريا مشروعة في ظلّ غياب التوافق الوطني حول طبيعة الدولة القادمة. هذه المخاوف تشمل احتمالية أن يتحوّل الحكم إلى مشروع استحواذ فئويّ أو دينيّ أو عسكريّ فصائليّ، لذلك، لابد من الإصرار على أن سوريا التي نطمح إليها هي دولة لجميع أبنائها، لا تُقصي أحداً، ولا تتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات أو تحقيق المكاسب الضيقة. وسوريا لن تتعافى إلا إذا واجه أبناؤها مخاوفهم بصدق ووضعوا تصوراً مشتركاً يعكس تطلعاتهم من دون إقصاء أو استثناء.

علينا أن نسأل: كيف نمنع استغلال الدين أو الأيديولوجيا أو الطائفية كوسائل للسيطرة؟ كيف نُؤسّس لنظام حكم شفاف يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار؟ وكيف نضمن أن تكون السلطة في يد مؤسسات تخدم الشعب بدلاً من أن تخدم مصالح الفئة الحاكمة؟ ما الذي يجعل الحديث عن دولة الشريعة يبدو كاستعادة لتصوّرات دولة الاستبداد والخديعة؟ كيف يمكن أن تتحوّل الشعارات البرّاقة إلى أدوات للإقصاء والتقسيم؟ هل يمكن لدولة تُبنى على أسس دينية أن تحقق العدالة والمساواة، أم أنها تحمل في طياتها بذور انقسام جديد؟ كيف نضمن أن سوريا الجديدة ستكون دولة مواطنة تحمي الإنسان كإنسان، بعيداً عن الهيمنة الأيديولوجية والدينية؟ هل يمكن للبلد أن ينهض إذا تمّ التعامل معه كوليمة مفتوحة للصراعات والمغانم؟

لا يخفى أنّ أيّ حديث عن بلورة صورة لسوريا الجديدة لتصبح دولة الشريعة هو في حقيقته استعادة لدولة الخديعة. فحين يُطرح هذا المفهوم، تبدو المسألة وكأنها دعوة لإنقاذ البلاد من جروحها النازفة، لكنها في عمقها تحمل بذور إعادة إنتاج الأنظمة القمعية التي حكمت باسم الدين أو الأيديولوجيا، متستّرة بشعارات برّاقة تخفي وراءها استبداداً جديداً.

استخدام الدين كأداة سياسية ليس جديداً على منطقتنا. فقد أثبتت التجارب السابقة أنّ استغلال الخطاب الديني لتشكيل السلطة يؤدي في أغلب الأحيان إلى انغلاق فكريّ وقمع اجتماعيّ. فما كان يُفترض أن يكون دعامة أخلاقية وروحية يتحوّل إلى أداة للهيمنة وتقسيم المجتمع بين "مؤمنين" و"غير مؤمنين"، و"أوفياء" و"خونة". في هذه الأجواء، تُختزل مفاهيم المواطنة والعدالة إلى مجرّد شعارات يتمّ انتهاكها باسم "الشرع".

الدعوة إلى جعل الشريعة أساس الدولة تبدو، للوهلة الأولى، وكأنّها استجابة لرغبة شرائح من المجتمع، لكنها غالباً ما تحمل في طيّاتها نيّات مبيّتة لإقصاء الآخر المختلف، سواء كان ذلك الآخر مذهبيّاً أو فكريّاً أو حتى ثقافيّاً. تتحوّل الدولة إلى كيان أُحاديّ لا يعترف بالتعدّدية، وتُفرض قوانين بعيدة عن السياق التاريخيّ والاجتماعيّ للشعب، ما يُنتج في النهاية مجتمعات مفكّكة.

سوريا المستقبل يجب أن تكون دولة لجميع السوريين دون استثناء، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو الفكرية. دولة تعتمد على سيادة القانون الذي يحترم حقوق الإنسان ويحمي الحرّيات الفردية والجماعية، وليس على قوانين مُفسَّرة وفق أهواء طبقة دينية أو سياسية. دولة المواطنة؛ الدولة المدنيّة وحدها القادرة على حماية التعدّدية وتحقيق العدالة، لأنّها تقف على مسافة واحدة من الجميع، وتجعل من المواطن الركيزة الأولى لها.

مَن يتحدّث عن فرض دولة الشريعة ينظر إلى البلاد وكأنها غنيمة حرب، يُعاد توزيعها بين المنتصرين وفق معايير الولاء والاصطفاف. لا تكون الفكرة المركزية لديهم كيف نبني وطناً لجميع أبنائه، بل كيف يتم تقاسم السلطة والموارد وكأنّها مغانم مشروعة تُنتزع بعد صراع طويل. هذه النظرة تؤدي إلى اختزال الوطن إلى مكاسب آنية بدل أن يكون مشروعاً طويل الأمد لبناء دولة حديثة تحقق الاستقرار والتنمية، وتخلق بيئة من الاستبداد والفساد تجعل الأزمات تتفاقم بدل أن تُحلّ.

هذا التوجّه يُفقد الدولة قدرتها على التأسيس لاستقرار دائم، لأنّ البلاد تصبح مجرد ساحة لصراع المصالح، لا فضاءً لتحقيق آمال الناس في الخلاص والبناء. والتاريخ مليء بالشواهد التي تثبت أنّ الدولة التي تُبنى على أسس دينية سرعان ما تتحوّل إلى دولة قمعيّة، تخدم مصالح الفئة الحاكمة على حساب الشعب. فكيف نكرّر الخطأ نفسه؟

اللحظات التاريخية التي تمر بها سوريا تتطلب البحث عن سبل للخلاص والتكاتف لبناء مستقبل مشترك، وليس السعي لتحقيق مكاسب شخصية أو فئويّة باسم أكثريّة أو أقلّية.. مَن يظنّ أن ديمومة البلاد تتحقق من خلال المغانم لا من خلال العدالة والبناء، يرتكب خطأ قاتلاً. الوطن الحقيقي لا يُبنى على الأيديولوجيات أو الغنائم، بل على تضحيات مشتركة تهدف إلى تحقيق الخير للجميع.

سوريا التي يدّعي الكثيرون اليوم أنّهم يريدون إنقاذها لا يمكن أن تُبنى على قواعد تعيد إنتاج الانقسام والفساد والتعصّب، لذا لابدّ أن تكون دولة المواطنة التي تحترم الإنسان كإنسان، لا كأداة لتطبيق شرائع موضوعة من أجل السيطرة. والنتيجة الحتمية لهذا النهج هي دولة هشّة، مفتّتة، لا تستطيع الوقوف على قدميها لأنّها بُنيت على أسس الانقسام لا الوحدة.

وبات من المعلوم تاريخيّاً أنّ كلّ مشروع سياسي يرفع شعارات دينية ليبني دولة هو مشروع مؤقّت وعابر، مصيره الانهيار لأنه قائم على الإلغاء والتقنّع لا على الحقيقة. أما المشروع الحقيقيّ لسوريا الجديدة، فهو مشروع قائم على الاعتراف بالتنوّع، على العدالة والمساواة، وعلى بناء دولة مدنية لا قداسة فيها إلا للقانون الذي يحمي جميع مواطنيها. سوريا تستحق أن تكون وطناً حرّاً، لا مسرحاً جديداً لاستعراض خدع قديمة.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).