تبدو الكلمات متفرقة في هذا النص السوري، مما يستدعي البحث عن معانيها في القواميس والمعاجم لفهمها أولاً ككلمات، ثم بذل جهد إضافي لفهمها ضمن سياق ما.

لم تنتهِ الصدمة بعد، وأرجو ألا تنتهي في الأنفس في الأمد القريب، على أنني أرجو أن تتوقف طاحونة الموت والخراب هذه قبل إنهاء هذا المقال. خلّف المشهد السوري في هذه الآونة تذبذبات تغلغلت في أعماقنا، ولم نعد نعلم حقاً أهي قادمة من الخارج أم متولدة في دواخلنا كوننا جزءاً لا يتجزأ مما يحدث. يمكن التعبير بصورة أخرى: إن السوريين جميعاً مشاركون فيما يقع بدرجات متفاوتة، ولكلٍّ دوره من موقعه.

دائماً يسعى الناس إلى إظهار أنفسهم على أنهم يعلمون أو يحوزون الحقيقة المطلقة، وهو سلوك نفسي بامتياز. إذ يصعب على المرء أن يقول: "لا أعلم" أو "لا طاقة لي على الخوض في مسألة ما"، لذا فالطريقة الأسهل لتفادي هذه الورطة هي تبنّي بعض ما يُقال أصلاً وتحويله إلى فكرة يُظهرها وكأنها نابعة من ذاته، أو أن الفكرة تولدت بعد تفكّر وتمحيص.

يوجد من الناس من يجنح إلى أن المشهد السوري أو هذا النص الذي يُكتب يوماً بيوم له مغزى وعدد محدد من الدلالات المؤدية إليه، متجاهلين عن قصد أو عن قلة معرفة طائفة أخرى من الدلالات التي قد تقود إلى مغزى مغاير ومناقض. هؤلاء يتصرفون ويفكرون وفق نموذج يفترض تأويلاً نهائياً لنص أو مشهد ما. أي يجب أن يكون هناك مغزى محدد، ومن أجل هذا التأكيد، عليهم محو كل الدلالات والعلامات التي قد تؤدي إلى مغزى مغاير.

لا شك أن قارئ هذا المقال سيبدأ باستذكار ما شاهد وسمع، وقد يشرع في تفنيد تلك التأويلات الجامدة التي غالباً ما تكون صورة مستنسخة عن تأويل واحد لا غير. لا ضير من ذكر أن أكثر الناس ميلاً إلى هذا النموذج التأويلي هم من لا يملكون معرفة كافية تتيح لهم الخوض في مسارات تأويلية متشعبة، وكذلك من يُقيَّدون بأجندات أطراف لها نهج سياسي ومواقف تهدف إلى تحقيق مكاسب على أرض الواقع. يمكن وصف هؤلاء بالجهلة في حقل التأويل عموماً، وهم يتبنون نموذج التأويل الخطي الواحد غير القابل للانقسام والتشعب.

لكن إن تفكرنا في الواقع قليلاً أو كثيراً وأمسكنا أنفسنا عن إلقاء الأحكام، سنجد أن مساحة التأويل لا نهائية. هذا إن أخذنا في اعتبارنا عوالم الأفراد وما يشكلونه من مجموعات على أسس قومية ودينية واجتماعية واقتصادية. ولا يمكن تغييب الأبعاد الجغرافية أو تموضع مجموعات محددة ضمن جغرافيا تفرض عليهم اتخاذ مواقف معينة أو منح تأويل محدد للمشهد.

من النادر أن يدك أحدهم أزاميل عقله، حيث يمكن أن ينكسر الإزميل دون أن ينفتح على أي تأويل جديد. هذا الأمر يحدث حتى في عالم الأدب ونقاده.

التأويل الحالي للمشهد يكاد يكون مفروضاً من قبل المؤلفين أنفسهم، وأقصد الأطراف المسلحة على الأرض. أي أن رأي القارئ/المواطن قد غُيّب وانقسموا بين الانسحاب أو تبني أهازيج الفرح أو الانطواء والخوف من الغد، أو تبني ما يبغيه المؤلف واعتبار النص تحفة!

يمكن القول، ليس على مستوى النصوص الأدبية فحسب بل على مستوى أحداث ومجريات الواقع التي تشرف عليها حركات أو أفراد اعتبرناهم أقرب إلى مؤلفي النصوص، إن أي نص يُفرض بهذه الطريقة هو نص يمكن توصيفه على أنه "عمل فني بارد وميت"، وفق توصيف بيلينسكي لتلك الأعمال التي تفتقر لروح النص والتي "لابد أن يكون المرء مجرداً من كل ذوق جمالي لكي يرى فيها روحاً، لأنه في مثل هذه النصوص الميتة يمتزج الشكل بالمحتوى امتزاج الزيت بالماء". ما يحدث في سوريا ليس إلا نصاً يفتقر إلى الجمال، لكن الأطراف المحلية والدولية تحاول إضفاء مغزى ودلالات واضحة لما يجري.

لو أن المشهد أشبه بطبخة "الشاكرية"، فإن العناصر لم تمتزج فيها بطريقة صحيحة، ومع ذلك يوجد دوماً من يأكل هذا الطعام دون أن يرى أو يلحظ كل الخراب الكامن في إعداده.

مقدمة هذا النص السوري كامنة في الماضي، وما يجري في راهن الوقت يعود بنا إلى الماضي ويقودنا إلى مستقبل لا يمكن اكتماله إن لم نستعن بالماضي. نص لا حركة فيه، أو يعمل دوماً وفق أثر ارتجاعي.

إن قراءة الواقع وفق المنظورات الحالية فجّة وتبعث على الملل والسأم، لا بل تغضبني. أعلم أن الكاتب السيئ وحده يمكنه أن يخنق مدى التأويل في نصه الخطي والواضح والسطحي.

المحللون السياسيون، الذين من المفترض أن تكون لديهم قدرة امتلاك مساحة أوسع في التأويل، يفشلون أيضاً في الذهاب أبعد من المعلوم لدى الجميع.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).