كيف تتبدّل الولاءات فجأة في لحظات التحوّل الكبرى؟ هل يمكن أن يكون الخوف وحده مبرّراً للانخراط في منظومات القمع والتشبيح؟ وما الذي يدفع أولئك الذين كانوا جزءاً من آلة الاستبداد إلى تقنيع أنفسهم بأقنعة جديدة عند أول بوادر السقوط؟ هل يمكن للذاكرة الجمعية أن تغفر لهم؟ أم أن محاولات التلوّن والتكويع ستظلّ شاهداً على ازدواجيتهم وانتهازيّتهم؟ وما الذي يجعل بعض الأفراد يختارون المواجهة ويدفعون أثماناً باهظة في ظلّ القمع، بينما يختار آخرون الاصطفاف مع الطغاة ثم الادّعاء بالبراءة؟ هل يكفي تبديل الشعارات لتبديل الحقائق أم أنّ التاريخ سيظلّ يميّز بين من شبّح ومن قاوم، وبين من صمت ومن صرخ بصفاقة مدافعاً عن سيّده؟

أسئلة ملحّة تفرضها المتغيّرات العاصفة في المشهد السوريّ، حيث بات التكويع رمزاً ساخطاً يعكس واقعاً تتداخل فيه السخرية مع المرارة، والفرص الضائعة مع المحاسبة المؤجّلة، أو المسامحة المفترضة.

في هذه الأيّام التي تلي هروب رئيس النظام السوريّ إلى موسكو وتخلّيه عن شبّيحته ومنحبكجيّته، تتجلّى ظاهرة التبدّل السريع في الولاءات، حيث يعيد كثيرون منهم تموضعهم في مشهد جديد يظنّون أنه يمحو خطايا الماضي. وبات يُطلق على هذه الظاهرة مصطلح "التكويع"، الذي يحمل في طيّاته سخرية من واقع الانتهازية التي أصبحت سمةً واضحة لكثيرين ممن تغيّرت مواقفهم بين ليلة وضحاها. لكن هذه السخرية الشعبية لا تخفي حقيقة أعمق تتعلق بطبيعة الخيارات الإنسانية في مواجهة القمع والخوف، ولا تلغي الحاجة إلى قراءة نابشة لهذه الظاهرة.

الخوف من القمع حقيقة لا يمكن إنكارها، لكنّه ليس مبرّراً للتماهي مع الاستبداد أو التحوّل إلى أداة قمعية تُطارد المختلفين والمعارضين وتشوّه سمعتهم. هناك فارق واضح بين الصمت الذي يفرضه الخوف والتمادي في التشبيح العلنيّ. كثيرون من المعارضين السوريين اختاروا مواجهة النظام، ودفعوا ثمناً غالياً من حياتهم وأعمارهم في السجون والمنافي. هؤلاء كانوا يدركون المخاطر التي تحيط بهم، وهم أيضاً كان لديهم خوف وقهر، لكنّهم لم يختاروا الطريق السهل المتمثّل في الانحناء والصمت أمام الطغيان.

في المقابل، هناك من ذهبوا بعيداً ليصبحوا أدوات فعّالة في خدمة النظام، مُتذرّعين بأنّ الولاء كان الخيار الوحيد للبقاء. هؤلاء لم يصمتوا خوفاً على حياتهم، بل نطقوا وأرهبوا وشبّحوا، واليوم، مع تغيّر موازين القوى، يسعون إلى محو هذا التاريخ بادّعاء أنّ الخوف كان قيداً يكبّلهم أو يدفعهم للتشبيح والمبالغة في تقديم الولاء.

المكوّع لا يتخذ موقفاً صامتاً أو متفرّجاً، هذا لا يتناسب مع طبيعته الباحثة عن امتيازات هنا وهناك، بل يُغيّر خطابه بالكامل ليحاكي الواقع الجديد. هؤلاء الذين كانوا يرفعون صور الأسد ويدعمون النظام بكلّ وسائل القمع والتخوين، باتوا اليوم ينافسون معارضيه، ويسبقونهم بالمزاعم والشعارات، في المزايدة على قيم الحرّية والعدالة والكرامة.

كما أنّ معارضاً عن معارض يختلف، كذلك مكوّع عن مكوّع يختلف، فهناك من كان وسخاً في تشبيحه، ويتباهى به، وهؤلاء لا مبرّر لهم ولا يمكن تلميع صورهم أو التغطية على قبحهم بأيّ شكل من الأشكال، وهناك آخر كان يلوذ بصمته وخوفه ولم يمارس أيّ تشبيح أو تخوين، ويمكن تفهّم حالته أكثر، لأنّه ينتمي لشريحة واسعة لم تمتلك جرأة التضحية ومواجهة استبداد أجهزة "تنظيم الأسد".

ادّعاء أن الخوف كان المبرّر الوحيد للتشبيح ينهار أمام شواهد لا لبس فيها. الخوف قد يمنع الإنسان من التعبير عن موقفه، لكنّه لا يدفعه إلى الانخراط في ممارسات عدائية ضدّ الآخرين. السوريون الذين اختاروا معارضة النظام كانوا يعيشون تحت نفس الظروف القمعية، ومع ذلك لم يستسلموا، لم يختاروا الصمت، بل قاوموا ودفعوا ضريبة تلك المقاومة من أعمارهم وأملاكهم.

في السياقات السياسية والاجتماعية، يُعدّ التلوّن أو التكويع ظاهرة متكرّرة في لحظات التحوّل المفصليّة. الأفراد الباحثون عن امتيازات معينة، أو يفضّلون تحاشي الإيداء بهم، يختارون الاصطفاف مع الأقوى، سواء كان نظاماً ديكتاتورياً أو معارضة صاعدة. لكن ما يجعل هذه الظاهرة أكثر استفزازاً هو محاولات التبرير وإعادة كتابة التاريخ الشخصيّ لمكوّعين كان شبّيحة في الواقع، أو على وسائل التواصل الاجتماعيّ.

و"المكوّع" في الواقع تجسيد لظاهرة الانتهازية التي تفسد القيم المجتمعية وتعيد إنتاج ثقافة النفاق والتدليس والمداهنة بطريقة ممجوجة. ولكن على الرغم من كلّ محاولات التلوّن والتكويع، تبقى ذاكرة السوريّين قادرة على التمييز بين المواقف الحقيقية والزائفة، ومحاولة الهروب من المسؤولية للتموضع في سياق جديد لن تنجح في إخفاء العري المكشوف لأصحابه. ويبقى السؤال: هل يستطيع المشبّحون الذين ركبوا موجة التكويع فعلاً تبرير ماضيهم؟ أم أنّ الحقيقة ستظلّ تُلاحقهم، كما تُلاحق كلّ من اختار التشبيح على حساب الحرية والكرامة؟

دولة قانون لا انتقام

الحديث عن التكويع والمكوّعين لا ينبغي أن يُفهم على أنّه دعوة إلى محاسبة انتقامية أو محاكمات عشوائية، فمثل هذه الرغبة، إن وُجدت، لا تخدم بناء سوريا الجديدة، بل تُعيد إنتاج أنماط النظام الذي قامت الثورة السورية أساساً لمواجهته. تكمن المفارقة في أن انتقاد التكويع ليس استدعاءً للماضي بقدر ما هو محاولة لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، وهو محاولة للإشارة إلى ضرورة قطع العلاقة مع ممارسات الانتقام والثأر التي طغت على المشهد السوري لعقود طويلة.

بناء سوريا جديدة يتطلب أن تكون دولة قانون وعدالة، حيث يُحاسَب الأفراد وفقاً لمبادئ النزاهة القانونية، لا الأهواء الشخصية أو الرغبات الثأرية. سوريا التي ينشدها أبناؤها يجب أن تكون نموذجاً لدولة تحترم المواطنة، وتعيد للإنسان قيمته بعيداً عن منطق الانتقام الذي يُشعل مزيداً من الصراعات

سوريا الجديدة تحتاج إلى العدالة الانتقالية، وهي ليست انتقاماً من الماضي بل تسوية عادلة تنصف الضحايا دون أن تُقصي المذنبين من فرصة المصالحة. العدالة الانتقالية لا تعني إلغاء المحاسبة، بل تتطلّب تنظيمها بما يضمن أن تُطبّق القوانين بشكل عادل وشامل. المكوّعون الذين أضرّوا بالمجتمع عبر التشبيح والتآمر قد يكونون جزءاً من هذا المسار، حيث يقرّون بأفعالهم ويتحمّلون مسؤولياتهم، لكنهم لا يصبحون أهدافاً للانتقام الأعمى.

الثأر يعيد إنتاج دائرة العنف الأعمى ويُبقي المجتمعات أسيرةً لأزماتها التاريخية، وسوريا التي تطمح لأن تكون نموذجاً لدولة المواطنة لا يمكنها أن تُبنى على مشاعر الكراهية والرغبة في تصفية الحسابات. دولة القانون هي التي تضع الحدود بين المحاسبة العادلة والانتقام الفوضوي.

لا بدّ أن تُعطى الأولوية لترميم النسيج الاجتماعي الذي تمزّق بسبب الحرب والتشبيح والانقسامات. في هذا السياق، يصبح الحديث عن التكويع جزءاً من الذاكرة الجمعية التي لا تُنسى، لكنها لا تُستغل أيضاً كأداة للتحريض على الكراهية.

سوريا الجديدة تحتاج إلى شجاعة الاعتراف من جانب هؤلاء الذين غيّروا ولاءاتهم وانقلبوا على مواقفهم، لكنها تحتاج أيضاً إلى تسامح واعٍ يُدرك أن بناء المستقبل أهم من تصفية الحسابات مع الماضي.

وأودّ أن أؤكّد أنّ الحديث عن التكويع ليس لإثارة أحقاد، بل للتذكير بأن سوريا التي نحلم بها هي وطن للجميع، بشرط أن يكون الجميع مستعدين لاحترام القانون والمساهمة في بناء مجتمع يحترم قيم الحرية والعدالة. بناء سوريا جديدة يتطلب تجاوز أخطاء الماضي دون أن يعني ذلك نسيانها أو تجاهلها. إنها فرصة لتأسيس مجتمع يتعلّم من أزماته لا أن يعيد إنتاجها.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).