ما بعد التضحيات: كيف نحمي التعدّديّة السوريّة من التمزق؟
ثمة محاولات تحريضية متكرّرة من بعض الإعلاميين ونشطاء وسائل التواصل الاجتماعي تجاه ما يحدث في سوريا، عبر استخدام شعارات دينية أو قومية أو مذهبية تهدف إلى شيطنة الآخر وجعله منبوذاً في أعين فئات معينة، مقابل منح الشرعية لطرف آخر. هذه الخطابات تغذي نزعات التمييز وتعمّق الشروخ في نسيج المجتمع السوري المتنوّع.
يضعنا التأثير السلبي لهذه الخطابات في حالة من الانفصال عن واقعنا الإنساني، وكأننا نتعاطى موادّ مخدّرة تعمينا عن رؤية الروابط العميقة التي تجمعنا: التاريخ، الجغرافيا المشتركة، المصاهرة، اللغة، والدين، الجوار، الصداقة، إضافةً إلى قيمنا الإنسانية. هذه الروابط حافظت على تماسكنا لعقود، ومن الضروري اليوم استعادتها لتكون حائط صد أمام كل محاولات التفريق، بعيداً عن النظرة التي ترى سوريا وكأنها فئات متخاصمة لا تجمعها أية صلة.
في الماضي القريب، كانت سوريا تعاني من نظام قمعي يكتم الأصوات ويجبر الأفراد على التخلي عن هوياتهم ومطالبهم في سبيل النجاة من آلة القمع. أما اليوم، وبعد تضحيات عظيمة، فلا بد أن نؤمن بأن سوريا الجديدة لا يمكن أن تعود إلى زمن الصمت والخوف. من حق الجميع التعبير عن آرائه ومطالبه، لكن هذا الحق يرتبط بمسؤولية احترام الآخرين وحماية حقوقهم الإنسانية.
يتطلب بناء سوريا المستقبل أكثر من مجرد شعارات جوفاء كان النظام البائد يروّج لها داخلياً وإقليمياً، وعدم الانجرار إلى خطابات إسلامية متطرفة تقصي الآخر وتبتعد عن التعاطف والرحمة والمحبة والإيمان بالاختلاف الذي يقع في صلب العقيدة الإسلامية السمحة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا). تحتاج سوريا اليوم إلى مبادرات عملية وفردية تعكس فهماً عميقاً لتشابك المصالح الداخلية والخارجية في الأزمة الحالية، وأن نعرف موقعنا مما يحدث مع أهمية إدراك مخاطر خطاب الكراهية وتصفية الحسابات الشخصية أو التمييز العنصري داخل الأسرة المجتمعية الواحدة.
علينا أن نتذكر أن الفئات الأكثر تضرراً من أي تصعيد أو نزاع هي الأيتام، وكبار السن، وعائلات لا معيل لها، والمحتاجون، والمنكوبون الذين لا ذنب لهم، ولم يبق لهم غير الله أساساً يستعينون به. هؤلاء هم جوهر المأساة السورية، ولا يمكننا بناء وطن جديد دون وضعهم في صميم أولوياتنا، والعمل على إعادة الحياة لهم من خلال الدعم والتضامن.
إن بقايا قيم التعاطف في قلوبنا هي الأساس الذي يجب أن ننميه، ونعتمد عليه في بناء سوريا المستقبل، وإقامة وطن يحتضن الجميع، حيث يسمع فيه الجميع أوجاع الجميع، ويتعرف فيه الجميع على تطلعات الجميع، بعيداً عن خطابات القتل والانقسام والصور النمطية المتشكلة بناء على معطيات غير حقيقية.
مع بعض المتابعة، يمكن ملاحظة أن غالبية الخطابات التحريضية المنتشرة تصدر من فئة تعاني من مشكلات معقدة، سواء كانت اقتصادية أو نفسية أو اجتماعية. هذه الفئة غالباً ما تكون عاطلة عن العمل أو غير قادرة على مواجهة مشكلاتها الشخصية، ما يجعلها تعيش حالة من الفراغ الروحي والفكري، تحاول ملأها عبر الانخراط في جدالات عقيمة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو تبني آراء متطرفة وعنيفة تستهدف الآخرين.
هذه الفئة تبدو ناقمة على ذاتها وعلى المحيطين بها، وتسعى لنشر قيم الانتقام وإثارة النزاعات، مستغلة الأزمات والخراب لتحقيق مكاسب آنية أو وهمية. هذه الخطابات تشوّه النقاش العام، وتعرقل توجه الأفراد المتأثرين بها، خاصة من الشباب، نحو العمل البناء والمثمر.
للتصدي لهذه الفئة، نحتاج إلى وعي يشبه "فلتراً داخلياً"، يمكننا من التمييز بين ما هو مفيد وما هو مضرّ لنا. هذا الفلتر يجب أن نجعله فعالاً ضمن ممارستنا اليومية لتقييم المعلومات التي تصلنا، وتوجيه اهتمامنا نحو مصادر أكثر إيجابية وإنتاجية.
هذه الكلمات دعوة لأن نكون صناع تغيير حقيقي في سوريا، من خلال الأفعال التي تبني وطناً يحترم التعددية ويحتضن جميع أبنائه، وضرورة النظر إلى الأمام وعدم نبش مستنقعات الأحقاد والضغائن التي راكمها النظام الساقط.
0 تعليقات