هل يمكن للشرّ أن يتسلّل إلى نفوس الناس العاديين؟ كيف يمكن أن يتحوّل الجار أو الصديق إلى خائن في لحظة من لحظات الاضطراب؟ هل يُختزل الشرّ في الطغاة أم أنّه يتسرّب عبر شبكة من الأفعال اليومية البسيطة التي قد يقترفها الناس بدافع البقاء أو الخوف؟ كيف تواجه الإنسانية الهشّة مغريات الشرّ التي تلوح في الأفق في الأزمنة المظلمة؟ وأين تقف الأخلاق حين تتهاوى أمام قسوة الظروف؟ كيف يؤثّر السياق الاجتماعيّ والسياسيّ على اتّخاذ الأفراد لقرارات تتعارض مع قيمهم الإنسانية؟ هل الخيانة فعل فرديّ أم أنها تعكس تواطؤاً اجتماعياً أكبر؟ وما الذي يدفع بعض الأفراد إلى الاستسلام لمغريات الشرّ بينما يتمسّك آخرون بمبادئهم في الأوقات العصيبة؟ هل الشرّ حالة طارئة تحدث في أوقات الأزمات، أم أنّه جزء من طبيعة الإنسان العميقة؟ وكيف يمكن للإنسان العادي أن يتحوّل إلى أداة للشرّ في ظل الأنظمة القمعية أو الفوضى؟ ما دور الخوف والرغبة في البقاء في دفع الأفراد نحو اتخاذ خيارات لا أخلاقية؟ وكيف تشكّل الأحداث التاريخية مفاهيمنا عن الخير والشرّ؟ هل يمكن للأفراد تجاوز مغريات الشرّ، وكيف يمكن للمجتمع أن يدعم هذا الجهد؟
هذه الأسئلة وغيرها ترد في سياق محاولة فهم هشاشة الأخلاق الإنسانية وقدرتها على الانكسار تحت وطأة الضغوط القاهرة.
في مقابلة معها، أجابت الكاتبة البيلاروسيّة سفيتلانا ألكسييفيتش، الحائزة نوبل للآداب 2015، عن سؤال المذيعة لها: "هناك اقتباس في كتابك أثار إعجابي كثيراً، ألا وهو: "الشرّ لا يمكن أن يكون نقيّاً قط، فالشرّ ليس ستالين فحسب، بل أيضاً الكثير من الناس العاديّين"، فهل يجسّد ذلك كارثة ما بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ..؟" بقولها: تتكرّر في بلادنا مقولة "إنّ ستالين هو السبب". ولكن وراء قتل الملايين يقف بالتأكيد ملايين الجواسيس الذين خانوا الضحايا أيضاً. هؤلاء الجواسيس كانوا أناساً عاديّين، جيراناً وأصدقاء ومعارفَ. في المقولة التي ذكرتها، دار الحديث عن خيانة عمّة لابن أخيها، وهذا ابن الأخ يتذكّر العمّة في طفولته، ويتذكّر صوتها العذب وشعرها الطويل. وفجأة عرف أنّها خانت أخاها، وهذا يعني أنّ الموت لا يتحمّل مسؤوليته الجلّاد وحده، بل أيضاً آخرون كثيرون. ولا أعتقد أنّ هذه المشكلة هي مشكلة حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتيّ، بل مشكلة إنسانيّة. عن هذا كتبت أيضاً حنّة آرندت؛ التي تحدّثت عن سهولة الانحراف إلى الشرّ في الأزمنة المظلمة، كما تحدّثت حنّة آرندت عن صعوبة مواجهة الإنسان لمغريات الشرّ. هذا حدث في ألمانيا، وحدث أيضاً في إيطاليا، وأيضاً وأيضاً في بلدان لا تعدّ ولا تحصى في تاريخ البشريّة. في روايتي يدور الحديث عن شيء قاله نيتشه أيضاً، وهو: الإنسانيّة في الإنسان رقيقة للغاية كقشرة تفّاحة".
يبرز الشرّ في تاريخ البشرية كقوّة متجدّدة، قادرة على التغلغل في نفوس الأفراد والمجتمعات، عبر سبل لا حصر لها. في هذا السياق، تبرز كلمات ألكسييفيتش كتشخيص دقيق لأزمة الشرّ وتجلّياته عبر أفعال ليست محصورة في الطغاة، بل تمتدّ لتشمل الناس العاديّين. ترى ألكسييفيتش أنّ الشرّ ليس "نقيّاً" ولا يرتبط بشخص واحد مثل ستالين، بل يشمل ملايين الأفراد الذين تعاونوا وخانوا وضحّوا بأصدقائهم وأقاربهم وجيرانهم. هذه الفكرة تدعو للتفكير في مسؤولية الفرد تجاه أفعاله في الأزمات.
تنطلق ألكسييفيتش من مقولةٍ أساسية في فهم طبيعة الشرّ، وهي أنّ ستالين أو أيّ زعيم مستبدّ ليس هو المصدر الوحيد للشرّ. بل ما يجعل الشرّ قاتلاً ومُرعباً هو شبكة الأفراد الذين يخضعون له وينحرفون نحوه. الشرّ، حسب وصفها، هو تواطؤ بين كثير من الأفراد العاديين، الذين في ظروف معينة ينغمسون في خيانة أصدقائهم وأقاربهم. هذه الفكرة تدفع إلى تفكير عميق حول مسؤولية الفرد تجاه أفعاله في فترات الأزمات والاضطرابات. ليس القاتل هو الجلّاد الوحيد، بل هناك شبكة معقدة من الأفراد الذين يسهمون في تحقيقه، إما بالصمت، أو الخيانة، أو الدعم غير المباشر.
تستحضر الكاتبة هنا فكرة حنّة آرندت، الفيلسوفة التي بحثت في "تفاهة الشرّ" وحلّلت كيف أن الأفراد العاديين يمكن أن ينجرّوا إلى الشرّ في الأزمنة المظلمة. هؤلاء الأفراد الذين يظهرون كأناس عاديين في الظروف اليومية، يمكن أن يصبحوا أداة للقتل والتدمير حين تتغير الظروف المحيطة بهم. آرنت أشارت إلى أن الشرّ ليس نتاج الوحوش فقط، بل قد ينبثق من داخل الإنسان العادي، الذي يبرر أفعاله بفكرة الطاعة أو الضرورة.
تطرح ألكسييفيتش مسألة رئيسة في فهم انحدار الإنسان نحو الشرّ، وهي "سهولة الانحراف نحو الشرّ في الأزمنة المظلمة". هذه الجملة تكشف مدى هشاشة الأخلاق الإنسانية ومدى تأثير السياق التاريخيّ والسياسيّ على تصرفات البشر. هنا، تتبدّى فكرة أساسية وهي أن الإنسان ليس محصّناً ضد الشرّ، بل إن الإنسانيّة فيه "رقيقة للغاية كقشرة تفّاحة"، كما قال الفيلسوف نيتشه. هذه الرقّة تجعل الإنسان عُرضةً للسقوط في مستنقع الشرّ بسهولة، عندما تتوفّر له الظروف المناسبة للانحراف.
إنّ مغريات الشرّ تتجسّد في لحظات الضعف والاضطراب، حيث يجد الإنسان نفسه مضطرّاً لاتخاذ قرارات تتعارض مع قيمه الإنسانية. في تلك اللحظات، تبدو مغريات الخيانة والطاعة للطغاة وكأنها السبيل الأسهل للبقاء أو حماية النفس. الشرّ لا يظهر دائماً بشكل مباشر على هيئة دمار أو قتل، بل قد يكون تواطؤاً صامتاً، أو خيانة قريبة، كما في المثال الذي تطرحه ألكسييفيتش عن خيانة العمّة لابن أخيها.
المعضلة الأخلاقية التي تطرحها ألكسييفيتش تتجاوز حدود الاتحاد السوفيتي ومرحلة ما بعده، لتكون مشكلة إنسانية عامة. الشرّ ليس محصوراً في دولة أو حقبة زمنية معينة. من ألمانيا النازية إلى إيطاليا الفاشية، ومن ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية إلى الأنظمة القمعية في آسيا وإفريقيا، يتكرّر المشهد. الناس العاديون يتحوّلون إلى أدوات للشرّ، لأن الإنسانية فيهم، كما تصفها ألكسييفيتش، رقيقة وسهلة الانكسار.
هنا يتداخل قول نيتشه مع التحليل الأخلاقي العميق لألكسييفيتش. إن الرقة الإنسانية التي تكسو الروح مثل قشرة التفاحة تجعل من السهل خدشها أو تمزيقها، لتبرز بعدها طبقات الشرّ الكامنة. قد يكون الإنسان قادراً على أعمال خير عظيمة، ولكنه في نفس الوقت قادر على الانجراف نحو أفعال لا أخلاقية إذا ما وُضع في ظروف قاسية أو تحت ضغوط خارجية.
واحدة من أكثر النقاط المثيرة التي تطرحها ألكسييفيتش هي فكرة الخيانة التي يرتكبها الأقرباء والأصدقاء والجيران. هذه الخيانة لا تقتصر على كونها مجرّد فعل فرديّ، بل تعكس تواطؤاً اجتماعياً أوسع. ففي المجتمعات التي تسود فيها الديكتاتورية أو الفوضى، يتخلّى الأفراد عن قيمهم الأخلاقية والإنسانية من أجل حماية أنفسهم أو كسب رضا النظام. وتلك هي إحدى مغريات الشرّ الأكثر خطورة؛ أن يتمّ تبرير الخيانة أو القتل على أنهما أفعال ضرورية أو مبرّرة في ظلّ الظروف القاسية.
ما يثير التفكير هنا هو أن هؤلاء الخونة ليسوا بالضرورة أشخاصاً أشراراً بالفطرة، بل هم أشخاص عاديون يجدون أنفسهم في مواقف معقّدة، ويواجهون خيارات صعبة. الفارق الجوهري هنا هو كيفيّة استجابة هؤلاء الأفراد لتلك المواقف. بعضهم يسقط في فخ مغريات الشرّ، بينما يحاول البعض الآخر التمسّك بقيمه مهما كانت العواقب.
الحديث عن مغريات الشرّ وأسبابه يعيدنا إلى تساؤل فلسفي قديم حول طبيعة الإنسان: هل الإنسان بطبيعته خيّر أم شرير؟ كما أوضحت ألكسييفيتش وحنة آرندت ونيتشه، يبدو أنّ الإنسان يجسّد في ذاته كلاً من الخير والشرّ، ويصبح السياق المحيط والتجربة الفردية عوامل حاسمة في تحديد المسار الذي يتبعه. الشرّ ليس قادماً من الخارج دائماً، بل هو كامِن في الداخل، في أعماق الإنسان، جاهز للتجلّي حين تسنح له الفرصة.
وفي هذا السياق، يمكننا أن نرى أنّ الأخلاق ليست بالضرورة ثابتة أو راسخة في قلب الإنسان، بل هي رقيقة، سريعة الانكسار، تخضع للاختبار في أوقات الأزمات. وقد يكون الإنسان قادراً على مقاومة مغريات الشرّ، ولكنه في الوقت ذاته معرّض للانحراف والسقوط في مستنقعه، إذا لم يكن على دراية تامّة بهشاشته وبما يمكن أن تفعله الظروف بإنسانيّته.
0 تعليقات