ماذا يعني أن تكون سوريا أولاً؟ وهل يمكن للهوية الوطنية أن تكون جامعة دون أن تكون إقصائيّة؟ لماذا يثير اسم "الجمهورية السورية" حساسية لدى البعض، وكأن التخلّي عن التوصيف القوميّ يُعدّ تهديداً للانتماء العربي؟ ألم يكن هذا هو الاسم الذي وُلدت به الدولة الحديثة عقب الاستقلال؟ ولماذا يتوجّس البعض من العودة إليه، بينما استُخدمت الهوية القومية لعقود كأداةٍ لإقصاء مكوّنات أساسية من الشعب السوري؟ ألم يحن الوقت للتحرّر من مخاوف مصطنعة حول التسمية، والعودة إلى هوية جامعة تعكس حقيقة سوريا كبلدٍ متعدّد المكوّنات، غنيّ بتاريخه وإنسانه؟

لطالما كانت التسميات مرآة للهويات، وأداة لتعزيز الانتماء أو طمسه، وأحياناً وسيلة لإذكاء الأحلام أو تكريس الأوهام. حين يُطرح اليوم تساؤل حول جدوى اعتماد اسم "الجمهورية السورية" بدلاً من "الجمهورية العربية السورية"، لا يأتي هذا الطرح في سياق الانتقاص من هوية سوريا العربية، ولا في إطار سلخها عن فضائها العربيّ، لكنّه على العكس تماماً، يأتي من منطلق إعادة الاعتبار إلى الهوية الوطنية الجامعة، وإعطاء الأولوية لسوريا كوطن، بكل مكوّناته وخصوصياته، بعيداً عن التصنيفات الإيديولوجية الضيّقة التي حُشرت فيها لعقود طويلة.

دولة سوريا، أو جمهورية سوريا، أو الجمهوريّة السوريّة، أو أي توصيف معادل لا يلغي هويات البلد، لأنّ سوريا ليست بحاجة إلى توصيف قومي في اسمها الرسميّ لتثبت أنها جزء من العالم العربي، فالعروبة – بمفهومها الثقافيّ والتاريخيّ – ركن من أركان هويتها، لكن تلك العروبة الإقصائيّة الشعاراتيّة التي تاجر بها نظام الأسد الساقط، لا ينبغي أن تكون قيداً على طبيعتها التعدّدية، ولا وسيلة لإنكار مكوّناتها الأخرى.

لم يكن اسم "الجمهورية السورية" يوماً دخيلاً على البلاد، أو مستحدثاً أو مفتعلاً، بل هو الاسم الذي نشأت به الدولة الحديثة عقب الاستقلال عن الانتداب الفرنسي عام 1946. تحت هذا الاسم، وفي ظلّ العلم الأخضر؛ علم الاستقلال، بدأ السوريون بناء دولتهم الوطنية الحديثة، وكانت هذه التسمية تجسيداً لرؤية وطنية قائمة على المواطنة، لا على الإيديولوجيات العابرة للحدود. ولم يكن في ذلك أي افتئاتٍ على الانتماء العربيّ لسوريا، ولا أي محاولة لعزلها عن محيطها، كما لم يكن هناك صراع حول هوية سوريا، ولم يكن هناك شعورٌ بضرورة إثبات انتمائها العربيّ بتضمين ذلك في اسمها الرسميّ.

إنّ التدخّل في تسمية الدولة وإضافة البُعد القوميّ لم يكن سوى نتيجة لتيارات إيديولوجية سعت إلى فرض تصور معين للهوية، وحصرها في بُعد واحد، متجاهلة الطبيعة المتنوّعة والمتعدّدة الأبعاد لسوريا. فسوريا لم تكن يوماً كياناً أحاديّاً، وقد شهدت تعاقب حضارات وثقافات شكّلت نسيجها الفريد، من الآراميين والأكاديين إلى الإغريق والرومان، ثم العرب والكرد والسريان والأرمن وغيرهم، الذين أسهموا جميعاً في بلورة هويتها الوطنية، والهوية السورية وفقاً لهذا التاريخ نتاج قرون من التفاعل بين الشعوب والثقافات التي تقاطعت فيها.

لا يخفى علينا كسوريّين أنّ التشبّث بالتوصيف القوميّ في اسم الدولة لم يكن بريئاً، فقد استُخدم في سياقاتٍ سياسية لتكريس الإيديولوجيات القومية على حساب الهوية الوطنية، وللإيحاء بأن انتماء سوريا القومي يتجاوز أولوياتها الداخلية، حتى أصبحت أحياناً ساحة لصراعات تضرّها ولا تخدمها. والمفارقة أنّ هذه التسمية لم تحمِ سوريا من الصراعات والانقسامات، على العكس من ذلك، زادت من تغريب الدولة عن مجتمعها، حين اختُزلت الهوية في بعدٍ واحد، وتمّ إقصاء غيره، في بلدٍ يضم طيفاً واسعاً من المكوّنات التي لا يمكن حصرها في بُعد قومي واحد.

ينبغي للسوريّ العربيّ أن يتحرّر من الخشية من أن تسمية "الجمهورية السورية" تنتقص من عربيّته أو تفصله عن انتمائه، أو أن يعتبر الأمر استهدافاًَ شخصيّاً له، فالمسألة ليست تجريداً ولا إنكاراً، بل هي تأكيدٌ على الهوية الوطنية الجامعة. ولا ينبغي أن يكون الاسم مصدر رعب أو توجّس، وكأن الوطنية تتعارض مع الانتماء القوميّ، ذلك أنّ التحرّر من هذه المخاوف المصطنعة خطوة ضرورية نحو بناء دولة تستوعب جميع مكوّناتها، دون أن تُفرض عليها تصنيفات مسبقة تحدد هويتها وفق أيديولوجيات ظرفية.

لا بدّ لأيّ دولة حديثة أن تستند إلى هويتها الوطنية أولاً، لا إلى شعارات قد تُبعد شرائح من مواطنيها عن الشعور بالانتماء الكامل لها، ليس المطلوب أن تتخلى سوريا عن بعدها العربي، بل أن تُعيد ترتيب الأولويات بحيث يكون الانتماء الوطني شاملاً لجميع أبنائها، بغض النظر عن خلفياتهم القومية والدينية. فكما أنّ هناك كثيراً من الدول العربية لا تُضيف صفة "العربية" إلى أسمائها، ولا أحد يشكّك بأنّها ليست عربيّة أو ليست من ضمن العالم العربيّ الشاسع، فإن سوريا لا تحتاج إلى هذه الإضافة لإثبات انتمائها وهويّتها، بل تحتاج إلى إعادة تعريف المواطنة بشكل يشمل الجميع، بحيث يشعر كلّ فرد بأنه جزءٌ من هذا الكيان دون الحاجة إلى أي تبريرات أو تأويلات.

معلوم أنّه لا يمكن لأي دولة أن تنهض إذا لم تكن رؤيتها واضحة ومبنية على الواقعية السياسية والمصالح الوطنية. وكلّ الدول التي نجحت في بناء ذاتها لم تفعل ذلك من خلال الشعارات، بل من خلال التركيز على الداخل، وعلى تحقيق العدالة والمساواة لمواطنيها. وسوريا، إن أرادت النهوض بعد ما حلّ بها من كوارث طيلة ستّة عقود، فهي بحاجة إلى صياغة عقد وطنيّ جديد، يكون فيه المواطن هو الأساس، لا الشعارات الكبرى.

ليس المطلوب هو تغيير الاسم فقط، بل تغيير المفهوم الذي حكم البلاد لعقود، والانتقال إلى مرحلة يكون فيها الانتماء لسوريا كمكان وتاريخ وواقع ومستقبل، لا لمجرد فكرةٍ جامدة عن هويةٍ قومية تُفرض على الجميع. سوريا اليوم بحاجة إلى مشروع وطني جامع، يرسخ المواطنة المتساوية، ويمنح الجميع الإحساس بأنهم جزءٌ من هذا الوطن، دون إقصاء أو تهميش.

والعودة إلى "الجمهورية السورية" ليست خطوة رجعية ولا انتقاصاً من أي بُعد من أبعاد الهوية السورية، إنّها تصحيح لمسارٍ طويل من التلاعب بالمفاهيم القومية على حساب الهوية الوطنية، وهي بداية لتأسيس دولة يكون فيها السوريّ، من أيّ مكوّن كان، هو الأولوية، والوطن هو البوصلة، والمستقبل هو الهدف.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية