لاحيادية العتبة

لأن العتبة تستدعي ما هو مكاني، فإنه على الرغم من كل الأدوات المستخدَمة بمرجعيتها العلمية، تبقى معطوفة، ولو بنسبة ما على معايير لا تنحّي الذاتي جانباً. وفي الصرامة المنهجية الملاحَظة لدى جينيت، لا يظهر أن العتبة كما تتراءى له، تكون هكذا مع غيره بالمقابل، وليس في أفق المنظور ما يثبت علاقة من هذا النوع، عدا عن أنها بمفهومها المكاني سابقة عليه بامتياز، ومرئية، ومسماة، بصيغ شتى، لدى آخرين. إن مجرد الإمعان في التدقيق، لا يضمن إحاطة شاملة بكل مكونات الموضوع أو المادة اللدنة تماماً، وما يفصح عنه جينيت يدخل في خانة المحاولة، وليس التأكيد على حقيقة ممتلَكة من لدنه. ألم يعرّف بنفسه بأنه ليس معلّماً؟ " 20 "أي ما يبقيه عرضة للخطأ في كتاباته وتقديراته .تظهر العتبة سطحاً منزلقاً، إنه السطح المركَّب المتحرك دائماً، وهي تشد المتعامل معها جرّاء جاذبية المحتوى والمأمول فيها ، وبالتالي، فإن الممكن، في ضوء هذه المكاشفة المعرفية المسماة، أن يكون للذاتي حضور ونفاذ أثر في الجاري تسطيره بوصفه عِلماً أو ما يقربه من العلم، كما في العلاقات القائمة بين مندرجات العتبات النصية، والتي يأتي الباحث على ذكرها(العنوان، لوحة الغلاف، اسم المؤلف، تاريخ النشر، الاقتباس التمهيدي، كلمة الغلاف، قائمة المراجع...ص21).

C:\Users\ASUS\Downloads\P_Welat.Mihemed.jpg

" غلاف النسخة الالكترونية "

ومن هذا المنطلق إذا كان له الحق في الحديث عما سمّاه مثلاً، بـ" إشكالية العتبة النصية " لعدم دقتها، ولأن جينيت أخذها من غيره، تأثراً، وهكذا حاله مع المقدمة والهامش، من دريدا..إلخ "ص29 ".فإن ذلك لا يعني أن العتبة النصية المقرَّرة لا تحمل معها مثل هذه الصفة أو العلامة، وهي من نبْتها، كما هو حال أي مفهوم، إلا لحظة تأكيد الكاتب" جينيت، هنا" أن الذي تقدَّم به يحمل صفة العلم تماماً. ذلك يفسح في المجال لنقاشات، مقاربات، تساؤلات، وسجالات مختلفة، بحيث نشهد تباينات في عملية كل قراءة.

وفي الوقت نفسه، إمكانية التعرف على نوعية الحمولة المعرفية لدى كل " قارىء " هنا.

مثال ذلك، أن الباحث حين يذكّر القارىء بوجود العتبات النصية في التراث العربي " ص 34 " وفي صفحات عدة" ثماني صفحات "،يطرح معه تساؤلاً عن السيستام المعرفي، أو الفضاء الأبستمولوجي الذي تميّز به وقتذاك، حيث الديني كان مسيطراً، وتأثير ذلك في تلوين كل مفهوم عتباتي، وموقع الكاتب مما يقول ويسمّيه مجتمعياً. وما تعرض له الباحث بصدد هذه العتبات في النقد العربي الحديث، وعبر أمثلة متنوعة لها صلة بجانب الحرص على الموضوع ودقته " ص 43 "، وما لاحظه في الختام، بوجود ثلاث سمات: المبالغة والتهويل وإضفاء القيمة والأهمية على العتبات النصية والارتباك والإرباك في استخدام المصطلح، واجترار بعض مقولات العتبات دون مساءلة ومناقشة وتقييم.." ص 55 " يستدعي النظر في الموضوع في إطاره الزماني والمكاني، وما يشغل هذين في أبعادهما المجتمعية، وفي الثقافة القائمة بصيغتها الرسمية" والأكاديمية في الواجهة عربياً"، ويتمثل ذلك في أن المتعامل " عربياً " مع العتبات هذه، لا يخفي مرجعية الثقافة وحاملها الاجتماعي والفكري والنفسي، حيث ينتمي إلى بيئة مجتمعية مغايرة، ويكون التلقي قائماً على التباين في الموقع الاعتباري للذات الشخصية ومكانتها هنا وهناك. وما للمجتمع ومدى سويته المدنية من دور في ذلك.

وما دمنا بصدد جوانب من العتبات النصية واستحالة ضبطها، استناداً إلى مفهومها المركَّب، يمكن الإشارة إلى أن الباحث لا يخفي ذائقة معرفية خاصة، في تناوله للعتبة كمفهوم، بتأثير من تقدير فكريّ ونفسي معين، كما هو مخطط كتابه، بدءاً من عتبة الدخول، بداية، وعتبة الخروج نهاية..لأن كل عنوان فرعي يستدعي استفساراً عن نوعية العتبة هنا وبنية المثار باسمها، وهكذا بالنسبة لتقسيمه للكتاب معتمداً مفهوم " الباب " بما يفتحه وما يغلقه إجرائياً طبعاً، وحمولة كل باب من الفصول( فصلان للأول، ثلاثة للثاني، ستة للثالث والأخير، وهذا يستغرق أكثر من نصف مساحة الكتاب" صص 265-565 " لأنه المحك بالنسبة للباحث، في جانبه التطبيقي، والمتعلق بمقام الاقتباس التمهيدي في الرواية العربية، ومن خلال مجموعة من النماذج الروائية وحركية الاقتباس ذاك فيه ودلالتها.. إلخ)، وهو نفسه لا ينفي جانب الاجتهاد الشخصي، وعبر مفهوم المغامرة ( أكثر من ذلك، حين ربط مغامرته، وبصيغة تساؤل بـ " ورطة " من هذا النوع . ص 570) ، وليترك الباب" باب المتابعة، الحوار، النقاش، والسجال " مفتوحاً، وهو مفتوح أصلاً، اعترافاً بنسبية ما يقال هنا وهناك، وتجنباً لأي منزلق جانبي غفل ..

وما يزيد هذا القول وضوحاً، هو المتعلق بالمعتبَر عتبة، كما في مفهوم المقدمة، ومن خلال بورخيس بالذات:

( في مقدمة مقدماته، كتب بورخيس هذه الجملة المثيرة للتفكير: «لم يقم أحد بعد، على حد علمي، بصياغة تقنية للمقدمة. وهذه الفجوة ليست خطيرة، إذ أننا جميعًا نعرف ما هي. » هل نعرف حقاً؟ إن الدراسة الطويلة التي خصصها جيرار جينيت في كتابه عتبات للمقدمة، وهو مصطلح يوسعه ليشمل أي "خطاب يتم إنتاجه حول النص الذي يلي أو يسبق"، تظهر بوضوح أن جهاز التمهيد، سواء في طبيعته أو في وظيفته ، أكثر تعقيدًا مما يبدو.

على عكس الشكل الثالث الذي يحتوي على مقدمة و"كلمة ختامية" ومقدمة جوهرية، يتم تقديم الطرس بدون أدوات، وإذا جاز التعبير، بدون درع مقدمة. الحالة نادرة. بين ستينيات وثمانينيات القرن العشرين، كانت الأعمال الشعرية والنقدية واللغوية مصحوبة في أغلب الأحيان بخطاب تمهيدي، وكثيرًا ما كان المؤلفون الأكثر ترددًا يقدمون مقدمة بدون عنوان.

العلامة الافتتاحية الأولى في Palimpsestes هي رقم روماني في وسط الصفحة يشير إلى الفصل التمهيدي للكتاب. وهذا لا يفشل في التذكير بتقليد قديم جدًا، وهو تقليد النصوص الأرسطية. لكن دعونا نستمع أولاً إلى ما يخبرنا به النص. منذ الجملة الأولى، نحن منخرطون، فجأة، في مشروع تمهيدي حيث يتم تقديم جميع عناصر هذا النوع، واحدًا تلو الآخر: "الهدف من هذا العمل هو ما أسميته في مكان آخر، "لعدم وجود كلمة أفضل" ، شبه النص. ومنذ ذلك الحين وجدت الأفضل ــ أو الأسوأ: أننا سوف نحكم. وحشدت "التناص" لشيء مختلف تماماً. ولذلك يجب إعادة تشغيل هذا البرنامج غير الحكيم بأكمله. / فلنستأنف إذن"..) " 21 "

وهذا يصلنا بالقارىء كوحدة فكرية وبحثية وتذوقية مختلفة:

( لكل قارئ يستثمر فيه نصوصا أخرى. إن حياة كل واحد منا وتقاطعها سيعطي كل نص دلالة جديدة. لذا فإن تكرار النص نفسه سيخلق فرقًا مطلقًا، وسيغرس أصداء وبصمات في حياة قارئ معين. عبور مفترق طرق آخر للمكتبة التي يجب قطعها في كل الاتجاهات حتى تنتج تأثيرات جديدة داخلها. وهنا يتحول مفهوم الطرس، بمعنى الكتابة الطرسية  écriture palimpsestueuse ، ليتناسب مع مجال القراءة نفسه، القراءة التي، كما ينبغي، تصبح طرسية بدورها. ) " 22 "

وربما كان هناك ما يعمّق أثر المسطور هنا، لحظة العودة إلى الوراء، قبل ظهور أي أثر لجينيت، ومن خلال " فالتر بنيامين: 1892-1940 "، والحديث يخص الترجمة، وبين المترجَم والمترجم إليه تقوم العتبة بالذات، والنظرة المختلفة هنا إلى العتبة وأهميتها، حيث العتبة لا تغيب، لا تنحل، لا تضعف، إنما تكون شاهدة على علاقة بين طرفين، وتبقيهما محط المساءلة باستمرار من خلالها:

( إن القول بأن الترجمة على العتبة يعني أن الترجمة تستمد من لفتتها كل غموض الهامش، وعدم القدرة على التحديد الذي يقدمه ذلك بين الداخل والخارج، وهنا، بين النص الأصلي والنص المترجم.

تجربة العتبة تتم في كلا الاتجاهين: الدخول إلى مكان مغلق والخروج منه. وهي ليست بهذه البساطة كما تعتقد.

إلا أن العتبة تطمس التعارض الثنائي بين الداخل والخارج لأنها تشير إلى الارتباط الجدلي. وبالإضافة إلى ذلك، فهو يلتقط التأثير الذي يحمله من الخارج ويغرسه في الداخل. عندما أكون على العتبة، قادمًا من الخارج، فإنني أستثمر في الداخل الخوف تفسه - باستخدام مصطلح فالتر بنيامين - الذي يتفوق علي عندما أفكر في الخارج، وأنا على العتبة قادمًا من الداخل. المجهول الذي يثيره الخارج اللامحدود يأتي ليحدد الداخل بينما هذا، بحكم التعريف، محدود.

إن تجاهل الهامش سيكون، على أقل تقدير، غير مرحب به - أو ... متناقض - من جانب دراسات الترجمة التي تثبت شرعيتها من خلال تحدي الثانوية التي تعزى عادة إلى الترجمة.) " 23 "

ربما نكون هنا في مواجهة صراع التأويلات، وفي العمق، لحظة النظر إلى الهامش على أنه يهدد " المتن " ويكون سبباً لأن ينفتح على خارجه، وهذا الهامش لا يكون ثابتاً، بل قد يستحيل متناً أو طرفاً ما في تكوينه، وهذه النقلات محسوبة بدقة، والنظر في المسافات الفاصلة، والذهنية الفاعلة فيها، هو الذي يفتح الطريق واسعاً أمام الاختلافات ووجهات النظر المتضاربة .

مفصل " النص الموازي "

لا يخفي الباحث ولات اهتمامه بمفهوم " النص الموازي " أو " العتبة النصية " لأن مصير الكتاب، وليكون كتاباً، وقد " شب عن الطوق " يتوقف عليه، أي بفضيلة النص الموازي  يصبح النص كتاباً. وهو يقتفي أثر هذا المفهوم في مكوناته، وما تردد حوله، حيث يحتاج ذلك إلى مزيد من اليقظة للإحاطة بالموضوع: النص الموازي.

للتوضيح (النص الموازي، وفقًا للأصل المزدوج للبادئة اليونانية Para-، هو جميع الصفحات والرسائل التي تحيط بالنص وتحميه. وتتعلق وظيفتها بالحماية المادية (الغلاف، والأوراق النهائية) أو الرمزية (المقدمة، والتمهيد، والعنوان البريدي، والكتابات، وما إلى ذلك)، كما تتعلق بالتعريف (اسم المؤلف، عنوان العمل، اسم الناشر، المكان والتاريخ). مكان النشر، مكان الطباعة، اسم المجموعة، الرمز الشريطي، وما إلى ذلك)، التنظيم (جدول المحتويات، قائمة المراجع، الدليل، الفهرس، الملاحق)، التمييز (غلاف ناعم أو مقوى، تنسيق الكتاب، اختيار الورق) أو الإغواء (سترة، رسم توضيحي للسطح، رسومات، وما إلى ذلك) " 24 "

ذلك يستحق النظر والمتابعة، التأمل والمقارنة، المساءلة والاستنطاق لما هو خفي في بنية هذه المكونات وترابطاتها.

ولات لا يكتفي بمهمة المستعرض للأفكار الجزئية، والتذكير بالأمثلة، إنما يستدعي ويسائل، يذكّر ويستجوب الصامت، مستنداً إلى حصيلة قراءته في هذا المجال، حذراً من إطلاق أي حكْم، كما هو متوخى الموضوع .

أشير إلى مثال واحد، وهو مهم، بصدد ما أسماه بـ" آراء مبالغ بها حول العتبات النصية، عن علاقة النص بالعتبة:ما يخص بقاء العنوانات، مثال ينطوي على تلاعب بالألفاظ، فالقول بالعنوان يؤكد وجود نص آخر، ثانياً، بعد ضياع النص، المتن، لن يكون للعنوان وحده  أي وجود إلا في الذاكرة، إذ سينتهي وجوده كأثر.. ثالثاً، وجينيت حين يقول أنه قد توجد نصوص موازية من دون نصوص، فإنه يطلق حكماً عاماً يتعلق بالعتبات النصية بصفة عامة " ص 84-85 ". 

إنه تدقيق في المدقَّق بمفهومه الهندسي، وفي بنية المكونات الكثيرة التي ، يظهر، أنه يستحيل الخروج من  خانتها دون مساءلة، براحة بال، حيث يختصر عالَم شاسع واسع، وهو في ثراء مكوناته كما تقدم "25 " . 

لكن الممكن النظر فيه من جهة أخرى، هو وجود ما يُسمّى من آثار شفاهية أو كتابية، ويجري تداوله، دون وجود أثر فعلي " نص متن " يصادق عليه " وما في ذلك من حضور لما هو أسطوري غابر في الزمن، لتحقيق أكثر من هدف اعتباري..

والنص الموازي، وانطلاقاً مما يكوّنه، لا بد أن يواجه مثل هذا التحدي في المساءلة وبصدد حقيقته المركَّبة.

النص الموازي يبقى في العراء، مكشوفاً، خاضعاً لمتغيرات الزمان والمكان، والثقافة وأهليها، ولهذا، فإن المسافات القائمة بين أي مكون وآخر تخضع لاجتهادات وخطابات لها مرجعياتها المتباينة.

(لأن النص الموازي هو ما يجعل النص مرئياً ومقروءاً، ومن خلاله يصبح كتاباً. وقد قمنا بتحليل وظائفه بشكل خاص: تحديد الكتاب وعرضه، وحمايته، وتنظيمه، وتداوله، وتنفيذ استراتيجيات الإغراء أو المعاملات من أجل الوصول إلى القارئ. تتم إضافة النية التحريرية والمناورات التجارية والحيلة الإعلانية إلى عمل المؤلف، لتوجيهه والتأثير على التداول بين العمل والمتلقي.

و( إذا كان النص "ثابتًا نسبيًا" بمرور الوقت، فإن العديد من مكونات جهاز التحرير تهدف إلى التحول والتطور، وفقًا للموضات أو احتياجات الجمهور: "أكثر مرونة، وأكثر تنوعًا، ودائمًا انتقالي لأنه متعدٍ، والنص الموازي في حالة تغير". "إنها أداة للتكيف بطريقة أو بأخرى"37، كما يتذكر جينيت. وبصرف النظر عن بعض العناصر غير القابلة للتصرف (اسم المؤلف أو العنوان - ولا يزال بإمكاننا العثور على استثناءات ملحوظة)، فإن العتبات بطبيعتها مصابة بالتقادم (الأغلفة أصبحت عتيقة الطراز، والكتب تتدهور، والمقدمات، عندما لا تكون مؤلفة أو غير مؤلفة). موثوق، يتم استبدالها، بالإضافة إلى جهاز الملاحظة، وحقوق الطبع والنشر، ثم أصبح الرمز الشريطي إلزاميًا، وما إلى ذلك) أو يتطور (يستمر النص أحيانًا لفترة طويلة بعد إصدار العمل، على سبيل المثال من خلال "التعليق الذاتي المتأخر" 38 أو نشر مراسلة أو مذكرات خاصة بعد الوفاة). ولذلك فإن عتبة الكتاب هي أداة ضرورية للحيوية الاجتماعية للنص، إن لم يكن لبقائه، وهي مستثمرة بذاكرة رأسمالية ورسالة تراثية.) " 26 " 

بناء عليه، يكون النص الموازي قد تحرّر من أي لغة وصائية للمعني به" المعتبَر مؤسسه، وضابط معناه أو واضع أصوله " إذ في اللحظة التي يخرج من بين يدي كاتبه، حتى يعيش تحولات الهيئة والمعنى على وقْع النظر إليه، وتقدير المثار باسمه، وما يجري تسطيره وتوجيهه مختلفاً.

مفصل الاقتباس التمهيدي

يبدو أن الاقتباس التمهيدي له غوايته المعتبَرة نافذة المفعول، وأهليته لأن يقوم بالعديد من الأدوار والاستجابة لرغبات الكتاب ممن يريدون أن يقدّموا أعمالاً لهم بعلامات فارقة أكثر إثراء وذيوع أثر، أو تأكيد مكانة.

الباحث ولات يحاول تعقب خيوطه الدقيقة بحثياً، بعد إيراد تعريفه الجينيتي( المكان المعتاد له، في عمل ما، هو المكان الاقرب إلى النص، ويكون عموماً (...) بعد الإهداء ولكن قبل الاستهلال. ص 88 ) .

ثمة عتبة خطرة، تقول ما يريد الكاتب قوله من خلال آخر، ما يجعل للتالي قوله بلسانه محل اعتبار، وما في ذلك من نقطة استنادية، هي المصادقة المسبقة بقول مستدعى على المراد المضيّ بمعناه قبل تلفظه. 

وينطلق ماضياً" عن الاقتباس التمهيدي في التراث العربي أدباً ونقداً، وتالياً في النقد العربي الحديث، وجانب القصور في ذلك " ص 103 " ورؤية " الخلط والإرباك " والاستثناءات قليلة " ص 117 " غالباً، فيما تقدم، بعد إيراد نماذج كثيرة تعزيز اً لهذا التوجه.

وهذا يعيدنا إلى ما التذكير بما تقدم بخصوص مفهوم العتبة وخاصيتها، من خلال مفهوم الثقافة ومجتمعها، حيث وضعية الثقافة وطابعها القيمي الحضاري تضيء هذا الجانب. والإشكالية لا تكمن في عملية النقل الترجمي، وإنما في اللغة عينها حين يجري توقيفها، وتأطيرها سلطوياً، وما يكون للحرية عينها من حضور شبحي أو محدود كذلك ( لقد أُعدِم في العرب إجمالاً ذلك المضاء في جذوة المتخيل الفعلي، ذاك الذي يضيء الجسد من الداخل، حيث الماضي مسجَّل بأسماء من بنوه وسمّوه وعهدوه إليهم، وليس لهم شأن أو صلة به، لهذا لا بد من مقارعة هذا الاعتقاد، ليكونوا أهلاً بالتاريخ !) " 27 ".

لا تلام اللغة كلغة في الحالة هذه،إنما من يكونون القيّمين على مداخلها ومخارجها، ما يجري درسه وتحرّي أصوله ومناقشته أكاديمياً وفي " الهواء الطلق " لتعيش اللغة حياتها المستحق وتثمر. 

هناك ما يفيد اقتباسياً، ومع ( دريدا، مراجع واقتباسات )

( الصياغة الأولى (أو الاقتباس الأول) يمكن أن تكون على النحو التالي: كل شيء يبدأ في الجزء السفلي من الاقتباس. سيكون الأمر متناقضًا، ومتضاداً، ومثيرًا للجدل، لأننا إما أن نبدأ، ولا نستشهد؛ إما أن نقتبس، ولا نبدأ. ومع ذلك، دائمًا، منذ البداية، كان النص عبارة عن اقتباس.

-الاقتباس والتكرار.

الاقتباس ذو شقين. من ناحية، هو إعادة إنتاج، استعارة، نسخة؛ ولكن من ناحية أخرى فإن الجزء المتكرر ليس متطابقًا مع نفسه. إنه يشير إلى الآخر، ويعمل على متن النص نفسه. الاقتباس الذي يصبح منتجًا، ويخترع، ويخلق الآخر، يمكننا أن نسميه التكرار. فالاستشهاد هو تحريك، وهو أيضًا تطعيم، وتهجين، وولادة، وتوليد نصوص جديدة أو صور جديدة.

-أخلاقيات أخرى" للاقتباس.

نوع آخر من الاقتباس يمكن أن يسمى "التفكيكي". مثل الاقتباس الكلاسيكي، فإنه يأخذ بعنف مقتطفًا من جسد (جسد) الآخر. لكن هذه القطعة من النص ليست متمكنة، فهي تترك جرحا مفتوحا لا يمكن لأي تخثر أو خياطة أن يغلقه.) " 28 "

هل يمكن المضي بمفهوم الاقتباس، والذي يذكّر بما هو ناريّ في مصدره، وما في النار من حيوات، ما للنار من بُعد طقوسي وشعائري، باعتمادها يجري تحويل في القول المحوَّل نصاً، وكأن الاقتباس ربط الداخل بالخارج الذي ينفتح على اللاتناهي، ليكون الخارج محل انتظار، ورهاناً يحفّز على تسميته، أو  وضعه في موقعه المعتبَر، قبل الدخول إلى نطاق النص بالذات. فلا تعود النار عادية، إنما في هيأتها الهيرقليطيسية تذكير بالفاعل الوجودي" أصل الحياة، الوجود، والطبيعة "، لتكون في هيئتها الطليقة ماضية بالإنسان إلى اللامحدود في الطبيعة، والحرارة تتهجاها، وفي انتظامها ناراً موجهة، مؤثرة في الجسم ، مغيّرة في بنيته، كما لو أن الاقتباس التمهيدي هذا، ينتقل بالنص من وضعية إلى أخرى مغايرة" من النيء إلى المطبوخ " ليكون النص أكثر شهية؟ واعتماده على اقتباسين" ص 123 " ، يعبّران عن هذه التيمة، لتنوير المسطور، وتحفيز إرادة البحث والمعرفة لدى القارىء.

الباحث ولات ، يسلسل كماً وافراً من العناوين الدالة على ميكانيزم هذا الاقتباس في الرواية العربية، معلقاً، وموضحاً، وشارحاً، ومقارناً، ومصنّفاً النوعية، ومصححاً أيضاً، كما في تعليقه على اقتباس للباحث والروائي المغربي بنسالم حميش، حين أورد اقتباس يتضمن ثلاثة أبيات شعرية نسَبها إلى المتنبي، وهي لامرىء القيس، راداً سبب وقوعه في خطأ لافت كهذا إلى ( الإهمال والاعتماد على الذاكرة وعدم الرجوع إلى مصدر ما للتأكد من صحة هذا الإسناد. ص 159 ) .

مؤكدٌ أن خطأ كهذا يثير تساؤلات مختلفة تنصبُّ على ما يتعدى نطاق الاقتباس جهة المسطور وكيفية التسطير، والمادة الفعلية التي يشتغل عليها الكاتب، باحثاً أو روائياً أو ناقداً... إلخ . الاقتباس بالطريقة هذه، امتحان لوعي الكاتب وسبر لمعلوماته جهة الدقة .

يعني ذلك أن الاقتباس متعدد الاتجاهات، إنه ليس مادة جامدة، إنما حية إشعار بواقعة مضاءة بدال رمزي منه بالذات ، وذلك يوسّع مساحة الاجتهاد والمتابعة لخطوط الاتصال داخل النص وخارجه، والكاتب ضمناً يكون في موقع المساءلة والمقاربة النقدية. 

الاقتباس التمهيدي في الرواية العربية عملياً

ذلك ما يمكن التوقف عنده، وهو الاختبار الذاتي للباحث، حيث الباب الثالث، كما تقدم، يحمل عنوان" الإجراء العملي من عتبة الاقتباس إلى نص الرواية "..

إن كل ما تناوله تذكيراً، وتفسيراً وتأويلاً ومقارنات مختلفة، كان بغية سلوك الطريق الصحيح، وعبر نماذج روائية عربية، يتنقل فيها في الفراغ اللافراغ الفاصل والواصل بين " عتبة الاقتباس " العتبة المستدعاة أو المستلفة ، و" نص الرواية " رواية الكاتب الذي عنى بالاقتباس وأورده بصيغة معينة. إنما ، وقبل الدخول إلى " متن النص، نص الكاتب" ثمة أربعة اقتباسات تتفاعل فيما بينها، تأكيداً على الأهمية الكبرى للاقتباس هنا،مسمّياً أسماء ثلاثة ممن خُصّوا به، تاركاً الرابع غفلاً، كاشفاً بذلك عن تنوع قراءته المتعلقة بالاقتباسات ومواقعها وطرق ورودها، وكما هو الممكن تبيّنه في الروايات التي اشتغل عليها. الغفل ليس قفلاً، إنما إيقاظ للسؤال الذي يقرّب المسافة بين الاقتباس وهو غفل، ومعتمده، بوعي مقصود أو مدروس.

وبغية الحفظ على توازن نصه النقدي تاريخياً، وهو يمارس قراءة لنماذجه الروائية العربية، لا ينسى ما للمتغيرات التاريخية من دور في تكوينها وتحولها شكلاً ومضموناً، وفي النصف الثاني من القرن العشرين بالذات، حيث الروائي يكون في مظهر المثقف والروائي معاً، ليمكّنه ذلك من كتابة رواية في مستوى الحدث الذي يتفاعله معه " ص 267 ". ليتوقف تالياً عند نماذجه، طي عنوان اجتهد في صوغه" على شاطىء قراءة النص- شيء عن خصوصية الاقتباس التمهيدي . ص 272 "، أي ما ينير المفهوم، ليكون ذلك بوصلة إرشاد في المضي قُدُماً إلى المخطَّط له بداية.

ثمة البرّي حيث يكون العالم الأرضي بكائناته المختلفة، إنما للبشر المكانة الأولى، العالم الذي ينتمي إليه الباحث نفسه، وثمة المائي" البحري " حيث يكون العمق المتخيَّل والرحابة الزرقاء، وأعلاهما الفضاء الرحب بالمقابل، وما لذلك من محفّز مخيالي في نسْج النص الروائي وهو يحيل الواقع، بتصورات معينة، مما هو حرفي، يومي، إلى مرسَل مستقبَلي، يؤبّد اللحظة المتخيلة، والشاطىء يدير الدفة جهة تلوين العلاقات، وإن لم يكن المتنفذ الأولى في هذا الجانب، إنما بما أنه يتقدم النص في موقعه " بين الإهداء والاستهلال، إجمالاً " كان الانشغال به وتقليبه على وجوهه من حقه. حيث يقدّم تعريفاً له( الاقتباس بمفهومه التقليدي( إدخال المؤلف أو الخطيب جزءاً من كلام الآخر في كلامه على سبيل الاستشهاد والتدليل) وسيلة يلجأ إليها الكاتب أحياناً لغايات عدة على رأسها رغبته في تعزيز خطابه بكلام الآخر. ص 272) .

لا يعود الآخر آخر" انفصالياً " بقدر ما يكون مدمجاً في النص، وفي الوقت نفسه علامة إشهار وإشعار للقارء بالذات، على أن الكاتب هنا منفتح على الآخرين، وهو في إجرائه يصطحب معه شهادة لها مرجعية مجتمعية، تتعدى حدود خطاب الأنا، بالمفهوم الضيق للقول، ليضفي بطريقته مصداقية على ما يقوم به، ويكتسب مصادقة من لدن قارئه ذاك، أي على أن الكاتب المقتبِس، منتم ٍ إلى المجتمع، ومسكون بمتغيراته، قبل أن يكون كاتب نص روائي وهو يعنيه في الصميم.

ليكون المتقدَّم به عن الرواية العربية في المؤرَّخ لها استعداداً للخطوة التالية، جهة سطوع " نجم الاقتباس " ذاك( توجه الروائي لاستخدام عتبة الاقتباس في الرواية العربية بهذا الزخم الملحوظ، وبهذه الطريقة في التوظيف منذ سبعينيات القرن الماضي جاء، إذاً، نتيجة للتطور الفني الذي اعترى مفاصل تلك الرواية . ص 273 ) .

ذلك صحيح، ومع هذا التطور الفني، وكما رأينا في مستهل هذا الباب، ما يخص شعور الروائي المضاعف بالمسئولية الاجتماعية وتنامي الوعي السياسي بمأساة الجاري " هزيمة حزيران 1967 " الجرح الأكثر سخونة وإيلاماً للذاكرة الجماعية وله، ومتغيرات المنطقة والعالم، وكأن الاقتباس إضافة نوعية تسهم في إبراز مكانته ومدى تفاعله مع ما يجري ويعبّر عنه بطريقته. 

ومن المؤكد أن الباحث عن العتبات في تفاصيلها وإشكالاتها ، وضمناً، الاقتباس التمهيدي، وتلك الإضاءات المتعلقة بها، سوف يتلمس في عملية اقتفاء أثر المفهوم الواحد، بالنسبة لأي عتبة مسماة آنفاً، وما يدخل في نطاقه جزئياً، في مكوناته، ذلك الجهد البحثي الحريص على المرجع وخلفيته الفكرية، وكيفية انتشار أثره وصفة التلقي، وتفعيل الأثر بعد ذلك ، وفي صفحات تترى.

وما الفصول الستة التي أسنِدت إلى الباب الثالث، أو تنطوي تحته، إلا المحك المحوري للكتاب، وبعناوينه المختلفة تعزيزاً لخاصية المختلف، واستجابة لتحدي النص المقروء، وتشديداً على مساحة الاختلاف القائمة بين نص وآخر، وحتى ما يمكن البناء عليه، جهة الاقتباس التمهيدي، وهو يتنوع، ويختلف تفسيراً وتأويلاً من موقع  إلى آخر، وتبعاً لنوعية الاقتباس..إلخ.

الزمن الموحش لـ " حيدر حيدر" من زمن حكاية إلى حكاية زمن  " ص287 "

سباق المسافات الطويلة لـ "عبدالرحمن منيف "، التاريخ والتاريخ الموازي " ص 359 "

بيروت بيروت لـ " صنع الله إبراهيم "، جغرافية الحكاية أو حديث الخرائط " ص 421 "

البئر لـ " إبراهيم الكوني " أسطورة الصحراء وأسطرة الواقع " ص 453 "

يوميات سراب عفان لـ " جبرا إبراهيم جبرا " حرية الذهن وتشكيل العالم " ص 487 "

فتنة الرؤوس والنسوة لـ" سالم حميش " ثقافة النص وتداخل الأنواع " ص 429 " 

يظهر التعامل مع الاقتباسات مختلف من فصل إلى آخر، بالنسبة للباحث:

بالنسبة إلى حيدر حيدر، ثمة ثلاثة اقتباسات، الأول والأكثر طولاً مأخوذ من نص روايته " الزمن الموحش "

بالنسبة إلى عبدالرحمن منيف، يورد الباحث اقتباساً واحداً ولشارلي شابلن .

بالنسبة إلى صنع الله إبراهيم، يورد ثلاثة اقتباسات دون التزام بالترتيب الزمان لكتّابها:صنع الله إبراهيم، جاك دريدا، ابن عبد ربه.

بالنسبة إلى إبراهيم الكوني، ثمة اقتباس واحد، وهو للروائي نفسه.

بالنسبة إلى جبرا إبراهيم جبرا، يورد ستة اقتباسات

بالنسبة إلى سالم حميش، ثمة ثلاثة اقتباسات، إحداها لحميش نفسه .

طبعاً، يشار هنا بداية إلى المساحات المتفاوتة والمعطاة لكل رواية، كما هو مقدّر في عملية الترقيم المذكورة. أما في الجانب المتعلق بالنماذج، فإنه في مقدور أي قارىء مهتم بهذا النوع من الكتابات، أن يتساءل عن سبب اكتفاء الباحث بروايات ست، لكتّاب ذكور، وما يترتب على ذلك من أسئلة مسبارية تخص البُعد الفكري له، ولمشرفه " فالبحث أساساً أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه "، ولا أعتقد أن هناك تبريراً لمثل هذا الإجراء، لأن ذلك من مستحقات الرواية عينها، كونها تفصح عن ثرائها وسويتها الاجتماعية والفكرية في هذا التنويع، وثمة أسماء نسائية كثيرة، حيث إن إيراد ولو نموذج نسائي واحد، يغْني الكتابة ومفهوم الاقتباس بالذات، وربما ، في ضوء ذلك، لا أرى الباحث يسْلم من مشروعية نقد يتركز على انتقائية ذكورية خالصة، وتنحية كل أثر للنساء، رغم أن الباحث يورد نماذج في عملية مسح تاريخية حين يتحدث عن الاقتباس التمهيدي في الرواية العربية ومقام كل اقتباس، سوى أن إفراد نصف الكتاب لنماذجه الروائية ممثلة في كتاب ذكور، لا ينجيه من النقد بالصيغة سالفة الذكر. 

في الجانب المتعلق بالاقتباسات، لا بد أن القارىء، والقارىء الناقد بالذات، يكون على بيّنة وهي أن الباحث لم يلجأ إلى مثل هذا الإجراء الذي يتضمن تنويعاً في النماذج، واختلافاً في الكم بالمقابل، دون نسيان أصحاب هذه الاقتباسات، إلا ليعزز صواب مقولة الاقتباس التمهيدي ولاحدودية المعطى باسمه، والمساحة المخصصة له، ومن يكون القائل، أو ما يكون اقتباساً" رسم وغيره"، وفي الوقت نفسه، ليفصح عن قابلية مفهوم الاقتباس لمثل هذا " الانتثار " وجمالية المأثور والمتهيّأ له بصيغ شتى، وهو بذلك يربط القول هنا بالفعل هناك، أي حصاد ما استوعبه وتفهَّم دعواه، إن جاز التعبير، حيث الإمكانات لا تنفد بالتالي. 

أما بصدد تنوير العنوان الخاص بكل فصل هنا، فلا يخفي الباحث أيضاً حرصه على كيفية التنويع من منطلق قابلية الإيفاء بمعان مختلفة ، استجابة لنداء الاقتباس ومحفّزه الضمني، كما هو تقديره لكل عنوان فرعي، حيث لعبة اللعبة جلية:

من زمن حكاية إلى حكاية زمن . الزمن حاضرة تاريخية، والحكاية حاضرة ذوقية ونفسية ، وما أن ينتقل القارىء من صيغة " زمن حكاية " هكذا بمفردها، وهي نكرة، إلى " زمن حكاية " حتى يحضر الخيال ومهارة المتخيل في نسْج عالم منمذج يشكل مرجعاً للسالف وقراءته من جوانب مختلفة، ليكون الفني مبضع الجرح الغائر، ومكاشفة الآتي في ضوء ما كان. فالرواية لا تسمّي نفسها، لأنها ، وهي تنسّب نوعها إلى ما كان، وإن تمثّل المستقبل فيها، معنية بما سيأتي، وهو في ثراء محتواه، وتبقى دائماً في وضعية الغفل ذاتياً، يتكفل كل قارىء بالبحث عما هو زماني ومكاني، وعما تمثّله كل رواية، وسريان فعلها إلى الخارج .

هكذا الحال مع " التاريخ والتاريخ الموازي " حيث إن تكرار التاريخ لا يعني النسْخ، إنما الفسخ، واستيلاد المختلف، تاريخ ما كان في زمانه ومكانه الحسّيين، يفارقه تاريخ في صنعة المرتقَب والمتوخى، تاريخ يتعهد به الروائي بأسلوبه المائز.

وكذلك الحال، وبالمفهوم الجغرافي هذه المرة، لأن محتوى الرواية وبدءاً من اسمها يفرض نفسه، مع جغرافية الحكاية أو حديث الخرائط" حيث إن الخريطة تتحدث، تشهد، تلقّم الصمت بما يعرّيه قهراً، وينيره حقيقةً.

هكذا الحالة مع " أسطورة الصحراء وأسطرة الواقع " ثمة التكرار مع اختلاف الصيغة، حيث الواقع المؤسطر رفْع للنقاب عن المستور والمحظور ربما، والمهدور، ربما أكثر قيمياً في الواقع، ليجاز للفني أن يمارس دوره، ضماناً لحياة مرجوة .

وتبقي صيغة " حرية الذهن وتشكيل العالم " أقرب إلى التجريد، كما لو أننا إزاء نص فكري أساساً، تجاوباً مع طبيعة روايات جبرا، وفي روايته المذكورة بالذات. إن تفتح الذهن هو الذي يكشف عن العالم وكيفية تشكّله، على صعيد الحرية .

وبدورها فإن صيغة " ثقافة النص وتداخل الأنواع " المتعلقة برواية حميش، تستمد قيمتها من بنية نص الرواية، وما بين العبارتين: ثقافة النص وتداخل الأنواع من خطوط اتصال في الجهتين، مما يسمح لنا بعكس الاتجاه دون أن نخسر شيئاً: تداخل الأنواع وثقافة النص "، وما للمرونة هذه من عنصر كفاءة في التعبير عما لا يُحَد تأويلاً .

لا عتبة دخول ولا عتبة خروج:

الاكتفاء بما تقدم، لا يعني إطلاقاً أن المسطور يمثل " هوية " قطعية لكتاب الباحث الأكاديمي ولات محمد، إنما يمثّل علامات معينة، لها صلة بالكتاب، ومن خلال نقاط مفصلية فيه، كما هو العنوان الرئيس للبحث، حيث إن الانتهاء من قراءة الكتاب لا يعني خروجاً منه، وإنما اصطحابه وهضمه بطريقة معينة، وليكون للعتبة عينها حضور دلالي، جمالي، ثقافي وتاريخي مختلف .

والذي يمكن قوله تالياً، هو أن قراءة الكتاب تفصح عن تلك العلاقة الديناميكية وروعة الموعود فيها، حين تمثل أطرافاً قراءةً وكتابة، أو بالعكس، حيث تصبح العتبة عينها ولحظة التدقيق فيها بعمق، حمّالة أوجه، فتستحق أن تكون في مستوى اسمها ومسمّاها !

مصادر وإشارات

20-يقول باحث أكاديمي في شهادة عنه

"لا أستطيع أن أعطي حقيقة الحقائق، لا أستطيع إلا أن أعرض ظلها." وهكذا، افتتح جيرار جينيت، مع ستندال، بوستسكريبت، في عام 2016، وهو آخر كتاب متجدد في مجموعة "باردادراك" التي بدأت في عام 2006: باردادراك (2006)، الملحق (2009)، حاشية (2012)، خاتمة (2014) ). "ارتداد غريب"، يكتب جينيت في بداية هذا التذييل... تبقى الإشارة، مما يجعلنا ننظر إلى أبعد من ذلك، في آثارها.

جيرار جينيت، أحيانًا ما يثير دهشة البعض، ينظم بانتظام من خلال ملاحظاته المختصرة، سلسلة من الذكريات، والأسرار بالكاد تُذكر أو لا يتم تذكرها إلا قليلاً في بعض الأحيان، ووجهات نظر مرسومة على "النفس"، وذكريات الطفولة وحكمة الأمومة يتم فهمها بروح الدعابة. من الأسوأ دائماً في حالة تأهب. هذه الكتب، التي تحمل عناوين تحدد طريقة للترتيب الحميم مع ما ينبغي أن يكون نهاية، تطور في تفاصيلها نوعًا من النسخة العملية الثانية من العمل النقدي الاستثنائي الذي تم القيام به منذ الستينيات، منذ الأرقام الأولية (أصبحت فيما بعد الأشكال الأولى من سلسلة من 5).

ينظر

Jacques Neefs: Genette, l’art des perspectives, 22-5-2022

جاك نيفز: جينيت، فن المنظور

21-Jihen Souki :Rhétorique préfacielle de Gérard Genette ou l’art du palimpseste

جيهين سوكي: الخطابة التمهيدية لجيرارد جينيت أو فن الطرس

ولأن هناك تركيزاً على المقدمة، أنوّه، ومن باب اقتفاء أثر الموضوع، إلى ما أفصح عنه دريدا، وكما أشيرَ إليه من قبل الباحث ولات في المتن " ص 29-30 " حيث نقرأ:

لا تقتصر المقدمة على تقديم نص: يبقى شيء ما، خارج الكتاب، قطعة نفايات، شيء يسقط مثل اللحاء الفارغ.

ما الذي يمكن أن يفعله التفكيك بدلاً من المقدمة؟ لا يمكن لاستراتيجيته أن تكون استراتيجية تفكيكية عامة، والتي لا يمكنها سوى تأكيد الميتافيزيقا. استراتيجيته غريبة: فهي بلا نهاية، وهي مبنية على فشل الغاية النهائية، والنهاية. ليس لديها بروتوكول محدد مسبقًا. إنها تخترع بروتوكولها على طول الطريق وتدمره وهي تتقدم للأمام، مثل كتلة سحرية.

ينظَر:

Jacques Derrida - "La Dissémination", Ed : Seuil, 1972, pp13-15

جاك دريدا، الانتثار منشورات سوي، 1972، صص 13-15 .


22-المصدر نفسه. 

23-*-Alexis Nouss: Traduire comme expérience du seuil et non du passage

الكسيس نوس: ترجم كتجربة العتبة وليس المرور

24- Benoît Mitaine:paratexte

بينوا ميتين: النص الموازي

25-لعل عبدالفتاح كيليطو، انشغل بحثياً كثيراً، بمثل هذه العلاقة بين النص الموازي وما يُستدَل عليه، وإن ضؤل أثره، في كتابه: التناسخ والكتابة، المصدر المذكور، في الفصل الأول: تناسخ المقطوعات الشعرية، صص 17-23. 

26-ملف نشأة العتبات: GENÈSE DES SEUILS

مقدمة: إيلودي بويج وفرانس مارشال نينوسك

27-إبراهيم محمود: العرب لا يحبّون البصل " دراسة في متخيلات اللغة العربية " دار سطور، بغداد،ط1، 2019، ص 417 .

28-[Derrida, renvois et citations]

دريدا، مراجع واقتباسات

Pierre Delain - "Les mots de Jacques Derrida", Ed : Guilgal, 2004-2017, Page créée le 31 mai 2014

بيير ديلان - "كلمات جاك دريدا"، منشورات: غويلغال، 2004-2017.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية