ولعلّ الرياضة تكون معبراً يصل بالسوريين جميعاً إلى بر الأمان، باعتبارها جسراً استثنائياً قادراً على تجاوز السياسة والدين والمنطقة، على غرار العديد من المجتمعات المختلفة التي استفادت من الرياضة بما يتجاوز سياقها التنافسي أو الترفيهي، لتصبح قوة ناعمة قادرة على لمّ شمل الأمم الممزقة وترميم النسيج الاجتماعي المتآكل. فمن ملاعب جنوب إفريقيا إلى شوارع ساحل العاج وأولمبياد طوكيو، شهد التاريخ لحظات خالدة تحولت فيها الرياضة إلى أداة للمصالحة والسلام بين أطياف الشعب المختلفة.

ففي عام 1995، كانت جنوب إفريقيا تنفض عن نفسها غبار عقود من الفصل العنصري، وتحاول الانعتاق من نظام قمعي فصل السود عن البيض في كل مناحي الحياة. خرج نيلسون مانديلا من السجن بعد 27 عاماً، ليعتلي سُدة الرئاسة كأول رئيس أسود لجنوب إفريقيا عام 1994، وبين يديه دولة منقسمة ممزقة، يخشى فيها البيض من الانتقام، ويحمل السود جراح القهر والحرمان على امتداد عقود.

كان البيض مسيطرين بالكامل على رياضة الرغبي، وتتعامل معها مجتمعات السود كرمز لقمع الرجل الأبيض، حيث كان المنتخب الوطني مكروهاً من الغالبية السوداء، لدرجة دفعتهم لتشجيع المنافسين في المحافل الرياضية الدولية. أدرك مانديلا أن الانتقام سيُديم الانقسام، وأن المصالحة تتطلب رموزاً جديدة تجمع ولا تفرق، فوقع اختياره على بطولة كأس العالم للرغبي التي استضافتها بلاده عام 1995 كمنصة لرسالته الهادفة إلى توحيد الشعب.

ومن هذا المنطلق اتخذ مانديلا خطوات عملية لحشد الشعب وراء المنتخب الوطني، فحضر المباريات مرتدياً قميص الفريق رقم 6، الذي يعود لقائد المنتخب الأبيض فرانسوا بينار، بعد أن التقاه شخصياً وأقنعه أن الفريق أصبح ممثلاً للشعب كله ولم يعد حكراً على الأقلية البيضاء. حضر مانديلا المباراة النهائية ضد نيوزيلاندا أمام 63,000 متفرج معظمهم من البيض، واستمع إلى هتافهم باسمه، واكتملت الفرحة عندما استطاع الفريق المضيف هزيمة الضيوف والتتويج باللقب. نسي أبناء الوطن الواحد انقساماتهم في لحظة ملحمية، عندما سلّم مانديلا الكأس لبينار، فأصبحت أيقونة للمصالحة الوطنية، في إشارة إلى شرارة الأمل التي أشعلت إمكانية العيش المشترك.

وانطلاقاً من أهميتها التاريخية، يتناول فيلم "إنفيكتوس" (2009)، من بطولة مات ديمون ومورغان فريمان، هذه التجربة، مسلطاً الضوء عليها بأفضل صورة ممكنة، علّها تكون منارة تهتدي بها الشعوب التي تعاني من أوضاع مشابهة.

أما ساحل العاج، فدخلت في حرب أهلية طاحنة عام 2002 بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي، مخلّفة آلاف القتلى والجرحى، ومقسّمة البلاد إلى شطرين. وبعد فوز المنتخب الوطني على السودان وتأهله لكأس العالم 2006 لأول مرة في تاريخه، انبرى قائد الفريق آنذاك ديدييه دروغبا مستغلاً نشوة الانتصار والتأهل، فجمع اللاعبين في غرفة تغيير الملابس، ثم جثا محاطاً بهم ووجه نداءً عاطفياً صورته جميع الكاميرات، مناشداً أبناء شعبه إلى إيقاف إطلاق النار وإلقاء السلاح، والاحتفال بهذا الإنجاز، بعد أن أثبت الإيفواريون قدرتهم على العيش المشترك.

جاء رد الأطراف المتنازعة خلال أيام، فأُعلنت هدنة لمدة أسبوع، ولعب المنتخب الوطني مباراة ودية في مدينة بواكي المتمردة لأول مرة منذ خمس سنوات، ثم أُبرمت اتفاقية سلام رسمية بين طرفي الصراع عام 2007، مؤذنة بانتهاء حرب ضروس بين الطرفين، وأصبح دروغبا على إثرها سفيراً للأمم المتحدة للتنمية، ومثالاً على دور الشخصيات الرياضية وتأثيرها على الشعوب.

تكثر الأمثلة الحية على دور الرياضة في تقريب الشعوب أيضاً، فمن مشاركة الكوريتين الشمالية والجنوبية في أولمبياد سيؤول 1988، وما ترتب عليها من تخفيف التوتر وفتح قنوات الحوار بين الجانبين، والدعوة التي تلقاها فريق تنس الطاولة الأميركي لزيارة الصين، وما أفضى عنها من تقارب بين البلدين انتهى بزيارة نيكسون التاريخية إلى الصين عام 1972، إلى فريق اللاجئين الذي شارك في أولمبياد ريو دي جانيرو 2016، ورسالته الواضحة حول عالمية الرياضة بعيداً عن الحدود والجنسيات المختلفة، فهي ملاذٌ للإنسانية المشتركة.

وعلى نحو مشابه، يمكن للرياضة أن تجمع شتات السوريين الذين عانوا منذ 2011 حرباً شرسة بين نظام وفصائل معارضة وتنظيمات متطرفة، وما تمخّض عنها من تدخلات إقليمية ودولية، وانقسامٍ مزمن على أساس المنطقة والطائفة والمعتقد، مخلفةً ملايين اللاجئين وعشرات آلاف القتلى والجرحى والمفقودين. وبالتالي قد تكون الرياضة كلمة السر التي توحّد السوريين على قلب رجل واحد، وتساهم في تقريب وجهات النظر بين الجميع.

من الممكن إقامة مباريات ودية بين المناطق ذات الغالبية الطائفية المختلفة، ودعم البرامج الرياضية النسائية، فقد دفعت المرأة أثماناً باهظة طوال سنوات الحرب، والاستثمار في الأكاديميات والمدارس الرياضية لفئات الأشبال والشباب لتأهيلهم رياضياً وأخلاقياً على السواء، وتطوير البنية التحتية الرياضية وتأهيل الملاعب والصالات، والاستفادة من أصوات الرياضيين السوريين في نقل رسالة التعايش وزيارة المناطق المتضررة ومخيمات اللاجئين، وتعزيز دور الاتحاد الرياضي العام من خلال اختيار كفاءات وطنية حقيقية لإدارة الملف الرياضي، لا سيما في كرة القدم، وتعزيز الحضور الجماهيري عبر تأسيس رابطات المشجعين من خلفيات متنوعة والتركيز على الهتافات التي تحضّ على الوحدة وتنبذ العنف.







مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية